للوهلة الأولى تصورنا أن لجنة المتابعة العربية اتخذت قرارا بوقف «المفاوضات»، أى المحادثات بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل» ما استولد انطباعا فوريا بأن «المفاوضات» لم تعد واردة. كان هذا الانطباع عندما جاء الخبر مقتضبا، لكن تبين لدى قراءة بيان لجنة المتابعة أن «مهلة شهر» أعطيت للرئيس محمود عباس قبل اعتماد أحد بدائل أربعة أوردها رئيس السلطة أمام لجنة المتابعة، بمعنى أن قرار لجنة المتابعة كرر مواقفه السابقة بإخراج جديد ملتبس يستهدف تأجيلا مؤقتا ينطوى على تجاوب مع «رغبة» الإدارة الأمريكية بالادعاء أن «مسيرة المفاوضات» لا تزال قائمة، وأن فرصة الشهر الواحد من شأنها توفير الفرصة أمام إدارة أوباما لتجاوز الانتخابات النصفية من دون نكسة إضافية لما تعانيه الولاياتالمتحدة من إخفاقات فى حروبها فى أفغانستان وتوتر علاقاتها مع باكستان وصعوبات المخارج للأزمة الحكومية فى العراق، إضافة إلى علاقاتها المتوترة مع إيران وغيرها من مشاكل فى اليمن والصومال. ثم إن قرار وقف «المفاوضات»، (أى المحادثات) لمدة شهر تتصوره لجنة المتابعة مناورة «ذكية» إلا أنها فى جوهرها محاولة للتذاكى لا تنطلى على أحد رغم أن السيدة كلينتون وجورج ميتشل سوف يسوقانها على أنها مجرد وقفة مؤقتة ثم تستأنف المباحثات بعد شهر. إذا كانت الإدارة الأمريكية اعتبرت انقطاع «المفاوضات» لشهر واحد بمثابة عدم فشل فإنها تتصرف بكونها مجرد انقطاع مؤقت يحصل باستمرار، تمهيدا لتحرك جديد. يستتبع هذا سؤال ملح إلى لجنة المتابعة: هل تعتبر فعليا أن تعليق «المفاوضات» يشكل عقوبة رادعة لدفع «إسرائيل» إلى «تجميد الاستيطان» ناهيك عن وقفه؟ هل لجنة المتابعة العربية تتصور أن الرئيس أوباما فى الأسبوعين المقبلين على الأقل سوف يطلب تجميدا إضافيا لعمليات الاستيطان فى الضفة الغربيةوالقدسالمحتلة وسط شراسة معركة انتخابية نصفية غير مسبوقة من حيث انفلات الغرائز العنصرية المتمثلة بجناح «حزب الشاى» داخل الحزب الجمهورى المنافس؟ ألم تستوعب لجنة المتابعة محفزات الضمانات التى أعطتها الإدارة الأمريكية والتى من شأنها حسما نهائيا لتفوق عسكرى استراتيجى «إسرائيلى» على كل دول الجامعة العربية بشكل قاطع؟ ألم تعِ لجنة المتابعة أو تأخذ بعين الاعتبار أن ما يعلنه وزير خارجية «إسرائيل» زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» هو ما يخطط له حزب الليكود عمليا؟ وأن إصرار حكومة «إسرائيل» على الاعتراف بالكيان دولة يهودية للشعب اليهودى، وما ينطوى عليه من استئناف التمدد الاستيطانى فى «إسرائيل الكبرى» ألم تأخذ لجنة المتابعة فرصة لدراسة معنى الإجراءات العنصرية بحق المواطنين العرب داخل «الخط الأخضر» والمشاريع الخاصة بسن قوانين من شأنها شرعنة تكريس التمييز العنصرى فى أحسن الحالات والترحيل عند أية فرصة لقطع الطريق على حق عرب الخط الأخضر فى التمسك بأرضهم كحق غير قابل للتصرف وفى المساواة ناهيك عن حق العودة للاجئين؟ لماذا لم تفند لجنة المتابعة دعوة نتنياهو العودة فورا إلى المفاوضات من أجل السلام بدلا من تعطيلها بهدف «إجهاض» خيار السلام بالمطالبة ب«تجميد الاستيطان» بدل أن يكون هذا المطلب الفلسطينى للتجميد «تعطيلا» للسلام؟ ألم يكن جديرا بلجنة المتابعة العربية منذ البداية عدم الاكتفاء بطلب التجميد بل الإصرار على تفكيك المستوطنات إصرارا منها على أن اتفاقية جنيف الرابعة تحرم على سلطة الاحتلال أى تغيير أو تعديل للواقع الجغرافى أو السكانى فى الأراضى الفلسطينية التى تحتلها «إسرائيل»؟ يستتبع هذا سؤالا آخر: لماذا لا تصر اللجنة بشكل حازم على الولاياتالمتحدة أن تنتزع من «إسرائيل» اعترافا بأنها دولة احتلال لأن كل سلوكها منذ يونيو 67 وممارستها تؤكد أنها دولة غاصبة، وأن لا حق لها مطلقا فى الاستيطان أو تمسكها بالقدس عاصمة لها? ثم لماذا لا توصى لجنة المتابعة العربية بمقاطعة أى اتصال ناهيك عن أى تفاوض مع «إسرائيل» إلا بعد استقامة المعادلة القانونية التى كان إهمالها منذ اتفاقيات أوسلو سببا رئيسيا للعبثية التى رافقت كل المحادثات والمفاوضات التى جرت منذ الاتفاقية العابثة وحتى من قبلها?. كما علينا أن نسأل هل درست لجنة المتابعة ما إذا واصلت «إسرائيل» عمليات الاستيطان والتهويد، وما قد ينطوى عليه أحد خياراتها المطروحة باللجوء إلى مجلس الأمن إذا ما تقدم العرب بمشروع قرار يلبى المطالب المشروعة للفلسطينيين واصطدم بممارسة الولاياتالمتحدة حق النقض «الفيتو» ما هو الرد العربى إزاء هذا الوضع؟ هل ترضى لجنة المتابعة بتجميع بنود القرار المقترح ومن ثم يصبح عديم الجدوى، وبالتالى تمتنع الولاياتالمتحدة وبالتالى يصبح قرارا من دون أى إلزام ويساهم فى الإحباط بعد أن تم تسويق الاحتكام إلى مجلس الأمن على أنه خيار محتمل واعد؟ ثم لا مفر من سؤال لجنة المتابعة العربية عندما أعلنت فى بيانها يوم الجمعة الماضى 8 أكتوبر أن السلام مع «إسرائيل» لن يتحقق إلا بانسحابها من الأراضى العربية المحتلة وإلى حدود 4 يونيو كلها (بما فيها الجولان وجنوب لبنان) وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية وفقا لمبادرة السلام العربية وقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة. والسؤال للجنة المتابعة العربية أنه فى حال عدم الاستجابة لإنجاز بنود ما ورد فى هذا البيان وهو مستبعد إن لم يكن من المستحيل أن تتجاوب «إسرائيل» معه، إذن ما الإجراءات التى تقترحها اللجنة لانجاز ما ورد فى هذا الموقف؟ وما الإجراءات التى تنوى أخذها بعد شهر (بعد ثلاثين يوما) للنظر فى البدائل التى طرحها الرئيس عباس؟ أسئلة كثيرة طرحتها لجنة المتابعة العربية بالأمس، إلا أن خياراتها المعلنة تتضمن نقصا فادحا، وهذا ليس تشكيكا فى دوافعها إلا أن ما آلت إليه القضية الفلسطينية يعكس معاناة اختبرها شعب فلسطين فى مختلف أماكن وجوده مع تآكل متواصل فى أرض وطنه، إضافة إلى الجرائم التى ترتكب بحقه، والمثبتة فى قرارات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وهو ما يتطلب أكثر بكثير من مجرد المطالبة فى المرحلة الراهنة ب«وقف الاستيطان» أو الاكتفاء بتجميده بل مراجعة نقدية ذاتية للمراحل التى مرت بها هذه القضية المركزية فى الوعى العربى كما فى دائرة الوجدان العالمى ودراسة بدائل من شأنها أن تنطوى على إجراءات فورية تتناسب مع صمود الشعب الفلسطينى، كما تستوعب معاناته وتعيد إليه ثقته بمستقبل طالما راوده وأصر على إنجازه انطلاقا من حقه فى تقرير مصيره، وتأكيد جذرية انتمائه إلى أمة عربية، وإعادة الفعالية لمعنى التحرير فى منظمة التحرير وهى الإطار المفترض أن يكون تجسيدا لوحدة الشعب بكل شرائحه ومن دون استثناء مما يجعل من المنظمة مرجعية مرموقة لمسيرة المقاومة المستأنفة. وحتى لا تتوجس لجنة المتابعة العربية من مصطلح مقاومة، لابد من إعادة تعريفها كبوصلة لتوجيه النغمة المشروعة السائدة باتجاه ثقافة المقاومة كرادع شرعى بحيث تتوافر فرص استنفاد العديد من الخيارات التى تشمل التعبئة الشعبية بمظاهرات منظمة واستمالة الرأى العام العالمى من خلال تأييد المقاومة المشروعة إضافة إلى التعبئة والعصيان المدنى والاضطرابات بشتى تجلياتها وتفعيل تنفيذ الحقوق التى شرعتها القرارات الدولية والتى انتهكتها «إسرائيل» كنمط كامن فى عقيدتها الصهيونية ظلت تمارسه منذ نشأتها بهدف جعل كيانها بمنأى عن المساءلة والامتثال لشرعة حقوق الإنسان وللقانون الدولى وما تقوم به من ابتزاز حتى لحليفتها الأمريكية وما ينطوى عليه خطاب «إسرائيل» من اتهام لكل من يعترض على سلوكها ووصمه باللاسامية، ومن يعارض سياساتها الاستفزازية تتهمه بالعمل على نزع شرعيتها، ومن يكتفى بنقد تصرفاتها فإنه «يمارس ضغطا ظالما عليها» ومن يحتج على إجراءاتها القمعية فإنه يتساهل مع التمييز ضدها ومن يقاوم اغتصابها واحتلالها فهو إرهابى أو متعاطف مع الإرهاب. لذا لا مفر من استعادة منظمة التحرير لثقافة المقاومة بمعنى شمولية ومناقبية سلوكها حتى عندما تلجأ إلى خيار الكفاح المسلح عند استنفاد جميع الخيارات اللاعنفية كخيار أخير. عندما تتضح الصورة تتوافر البوصلة وتصبح الإجراءات الرادعة لتمادى «إسرائيل» لا فى الاستيطان فحسب بل فى الاستكبار وفرض نظام الابارتيد، عندئذ على لجنة المتابعة الموكول إليها من جامعة الدول العربية أن تدير العملية فى المراحل القادمة، التحرر بدورها من المكبلات المفروضة على السلطة الفلسطينية مثل القوة المدربة أمريكيا فى الأردن لأنها برهنت على أن معظم تصرفاتها كانت تتميز بتنسيق مع القوات «الإسرائيلية» فى الأراضى المحتلة، لكن الأهم هو التمهيد لإعادة النجاعة إلى جهاز المقاطعة الاقتصادية ل «إسرائيل» وتعليق كل العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع «إسرائيل»، والتنسيق الملزم بين الدول العربية فى توفير كل المساعدات المطلوبة لمنظمة التحرير المستعادة وحدتها ووحدة فصائلها وبالتالى مرجعيتها وقيادتها لتحرير وطنها وشعبها. من دون هذه الإجراءات تبقى «إسرائيل» منفلتة من أى عقاب، وأى تقاعس عربى فى هذا المضمار، وأى تردد عن إعادة الوحدة إلى منظمة التحرير ولثقافة المقاومة ومستلزمات دعمها عربيا يجعل كل البيانات والمطالبات مجرد إجراءات عبثية وتستمر «إسرائيل» تهدد السلم والأمن الدوليين وتجعل مجلس الأمن الدولى عاجزا عن أداء دوره فى الحفاظ على الأمن والسلام.