هبطت عاصفة البرادعى على مصر يوم 19 فبراير، واستمرت أسبوعا كاملا من الجدل السياسى والإعلامى والشعبى، وغادر الرجل مطار القاهرة أمس، لكن «حديث البرادعى» لا ينتهى فى المنتديات الافتراضية والواقعية. يختلف المتابعون للموقف السياسى قبل وبعد البرادعى على كل شىء، لكنهم يتفقون على أن هناك «موجة سياسة» ضربت المشهد السياسى السكان فى مصر، وعلى أن «حملة البرادعى» نجحت فى تحريك المصريين. عدد أعضاء المنضمين للحركة الآن على ال«فيس بوك» يتجاوز 100 ألف، بينما يقدر الناشطون على أرض الواقع عددهم فيما بين ألفين إلى 2500 ناشط. من أين جاء ناشطو الحملة؟ وما الذى رآه هؤلاء المتحمسون فى الرجل ليناصروه، ويعلقوا عليه كل هذه الآمال؟ مجموعة من الشباب الناشط سياسيا، أغلبهم تحت الثلاثين، ينسقون مجموعات من غير المسيسين، هذا هو وصف لأعضاء «الحملة الشعبية المستقلة لدعم وترشيح البرادعى». كان من الممكن لهذه المجموعة أن تظل مجرد مجموعة على ال«فيس بوك» أو حركة تغيير ليس لها وزن حقيقى مثل غيرها من حركات المعارضة التى تنشأ وتنشط وتنحل وتختفى دون أن يشعر بها أحد. غير أن اهتمام الدكتور محمد البرادعى بأعضاء هذه الحملة، فى شكل رسائل شكر متكررة لجهودهم ثم دعوة لبعض أعضائها للقائهم فى منزله، هو ما أعطى هذه الحملة أهمية خاصة. لكن كيف نشأت هذه الحملة؟ ومن يقف وراءها؟ يمينى ليبرالى «أنا برادعاوى»، يكررها محمد الحتة إذا سأله أحدهم عن ميوله السياسية. محمد، 22 عاما، طالب تجارة القاهرة، هو الذى دشن جروب الفيس بوك «البرادعى رئيسا فى 2011»، الذى كان نواة تأسيس الحملة الشعبية المستقلة لدعم وترشيح البرادعى. ليس عضوا فى حزب، ولم يكن له أى نشاط سياسى على الإطلاق، سوى متابعة الأحداث السياسية من خلال الصحف والتليفزيونات. «حسيت إن أغلب حركات التغيير ناقصها حاجة»، محمد لم يتحمس لحركة كفاية لأنها لم تطرح بديلا للرئيس الحالى حسنى مبارك، فى حين أن مرشحى الرئاسة فى انتخابات 2005، لم يكن بينهم من يصلح لقيادة مصر، فى رأيه. أغسطس 2009 أعلن حزب الوفد أنه على اتصال بالدكتور محمد البرادعى، الرئيس السابق لوكالة الطاقة الذرية، بصدد ترشيحه لانتخابات الرئاسة 2011. عندها شعر محمد بأن البرادعى هو الشخص الذى يجسد أحلامه فى التغيير، فالبرادعى حاصل على جائزة نوبل، حاصل على قلادة النيل، حائز على درجة الدكتوراه، يحظى باحترام دولى، «وكلها صفات مش موجودة فى أى حد تانى من اللى كانوا موجودين فى الساحة». دشن محمد مجموعة على ال«فيس بوك» باسم «الحملة الشعبية المستقلة لترشيح البرادعى»، وبدأ عدد أعضاء الحملة فى التزايد. لم يكن لهذه الحملة أى نشاط يذكر سوى كتابة بعض المقالات على ال«فيس بوك»، إلا أن عدد الأعضاء قد بدأ يتزايد قليلا بعد أن أعلن محمد البرادعى بأنه سيرشح نفسه للرئاسة فى حال توفر بعض الشروط التى تكفل انتخابات نزيهة. بدأ محمد حملته الافتراضية لأنه لم يرغب فى التوجه للأحزاب، «علشان تفضل الحملة مستقلة». واستمر فى الدعوة للبرادعى من منزله، وسيلته الوحيدة العالم الافتراضي. ورغم أن محمد يرى أنه «برادعاوى» حفاظا على أن تبقى الحملة بعيدة عن أى انتماء أيديولوجى أو حزبى، إلا أنه حين يتحدث عن اتجاهه الفكرى الخاص يقول «تقدر تقول إنى يمينى ليبرالى». «كان عندى مشكلة فى الاتصال بالنخبة»، فمحمد لم يكن له علاقة شخصية بأى ناشط سياسى أو حزبى يكفل له هذا التواصل. عندها، اتصل محمد بالشاعر عبدالرحمن يوسف من خلال موقع الشاعر على الإنترنت، وطلب منه الانضمام للجروب وأن ينشط فى حملة مساندة البرادعى. «الاتصال بعبدالرحمن كان ضربة قدر»، يقول محمد إن اختيار عبدالرحمن يوسف كان به الكثير من التوفيق، فهو «مستقل بعيد عن الأحزاب، وعمره يؤهله أن يصبح حلقة الوصل بين الشباب وكبار السن، كما أن له قابلية عند رجل الشارع، ده غير إن اسمه عبدالرحمن يوسف القرضاوى، وده بيعمل صدى كويس عند الناس». قومى عروبى لكن عبد الرحمن يوسف يصر على ألا يتم الزج باسم والده فى نشاطه الخاص. الشاعر من مواليد عام 1970، يصفه موقعه الشخصى على الإنترنت إنه «شاعر مصرى يكتب الشعر الأصيل ملتزما بأصول الشعر الصحيحة وبقضايا الأمة العربية وبجماليات الشعر العربى». أصدر حتى الآن 7 دواوين، منها «حزن مرتجل» و«نزف الحروف». اشتهر عبدالرحمن بين أوساط المعارضة المصرية بقصائده السياسية ذات أبيات زاعقة شديدة المباشرة: يا من لعرضى هتك فقدت شرعيتك سواد قلبك باد فاستر به شيبتك وصار ضيفا دائما فى مؤتمرات الأحزاب ومؤتمرات الحركات الشعبية، وصار لقصائده جمهور فى العالم العربى، خاصة تلك التى يتحدث فيها عن القضية الفلسطينية. «منذ حصول البرادعى على جائزة نوبل فى 2005، وأنا مهتم بمتابعته، لكنى كنت أعتقد أنه مزدوج الجنسية»، يقولها الشاعر عبد الرحمن يوسف، جالسا على مقهى بوسط البلد. يدخن الشاعر النرجيلة، ويتحدث بلغة عربية فصحى سليمة. «لكنى اكتشفت بعد ذلك أنه لم يحصل سوى على الجنسية المصرية»، فشعر عبدالرحمن بأنه الرجل المناسب لقيادة المعارضة. يصف عبدالرحمن نفسه بأنه «قومى عروبى»، لكنه يؤكد أن الظرف السياسى الحالى لا يحتمل الفرقة حول مفاهيم سياسية، بل أن تتجاهل المعارضة جميع اختلافاتها وتجتمع خلف رجل واحد. «هدفنا هو أن نجند 80 مليون مواطن مصرى لا علاقة لهم بالسياسة». من هنا، استجاب عبد الرحمن لدعوة محمد الحتة فى الانضمام للحملة الشعبية لدعم البرادعى، وبدأ يكتب مقالات مؤيدة للبرادعى فى عدة صحف، فى حين أخذ يروج من خلال قائمته البريدية الخاصة لجروب البرادعى. «أصبحت المجموعة قبلة لمن يؤيد البرادعى، وأصبح شخصى الضعيف عاقدا للآمال لتوحيد هذه الجهود». الغد و6 أبريل ضمت الاجتماعات الأولية بين 7 أعضاء إلى 30 عضوا من المستجيبين لدعوات ال«فيس بوك»، وتم توزيع الأدوار داخل الحملة، ليصبح عبدالرحمن يوسف المنسق العام للحركة. ويتولى التنظيم السياسى الداخلى للمجموعة كل من ناصر عبدالحميد، عضو الهيئة العليا بحزب الجبهة الديمقراطية، وباسم فتحى، الناشط السابق بحزب الغد وحركة 6 أبريل، إلا أنه أعلن انفصاله عن الاثنين. يتولى التنسيق بين أعضاء المحافظات عبدالمنعم إمام، عضو حزب الجبهة الديمقراطية. أما إسراء عبدالفتاح، العضو بحزب الغد سابقا والناشطة حاليا بحركة 6 أبريل، التنسيق مع القوى السياسية من خارج الحركة. عدد أعضاء المنضمين للحركة الآن على الفيس بوك يتجاوز 100 ألف، أما الناشطون على أرض الواقع فيقدر بما بين ألفين إلى 2500 ناشط. «80% من أعضاء الحملة ليسوا مسيسين»، بهذه الكلمات يؤكد ناصر عبدالحميد أنه لا مجال للنزاعات الأيديولوجية أن تنشأ داخل حملة دعم البرادعى. يؤكد ناصر أنه انضم لحملة البرادعى بعد أن رأى بعينه الخواء الذى أصاب الحياة السياسية فى مصر، «قضينا 6 أشهر فى 2009 فى لقاءات واجتماعات مع كبار الشخصيات السياسية، بندور على اسم يوافق عليه كل القوى السياسية، وانتهت الاجتماعات بالفشل الذريع». يؤكد ناصر أنه لولا البرادعى لكانت المعارضة المصرية تمر الآن بأسوأ مراحل التفكك والانحلال. ناصر وباسم لهما أنشطة سابقة فى عدد من الحملات المستقلة، مثل 6 أبريل، ومصريون ضد التوريث، وكفاية، و«نقدر»، وصوتى مطلبى، ومصريون من أجل انتخابات حرة، وغيرها. «حاولنا أن نتفادى جميع أخطاء الحملات السابقة»، والحديث لباسم. يقول باسم إن أخطاء الحركات السياسية والشعبية فى مصر تتنوع بين الشخصنة الشديدة، مثلما حدث مع أيمن نور الذى انهار حزبه بعد سجنه، وغياب الديمقراطية الداخلية، مثل 6 أبريل، أو وجود مزاج محافظ داخل الحملة يصر على أن يصبغها بطبعه، مثل صوتى مطلبى. «كل أعضاء هذه الحملات، وكل أعضاء الناشطين فى الأحزاب على بعضها لن يتجاوز 500 ناشط»، يقولها ناصر، مستنتجا أن نسبة الناشطين سياسيا وذوى الأيديولوجيات فى الحملة لا يمكن أن تتجاوز 20%، فى حين تبقى النسبة الغالبة من غير المسيسين. ناصر يحتل عددا من المناصب القيادية بحزب الجبهة، فهو ممثل الحزب فى الفيدرالية العالمية للأحزاب الليبرالية، وممثل الحزب فى شبكة الليبراليين العرب، ومسئول التثقيف السياسى. يقدر ناصر عدد أعضاء الحزب المنضمين إلى الحملة الشعبية لدعم البرادعى بما يقارب 60 عضوا، فى حين يؤكد عدم وجود أى أعضاء من أحزاب الغد أو التجمع أو الناصرى. أما باسم، فيؤكد أن البرادعى أصبح الأمل الوحيد فى إجبار المعارضة أن تتحد. «مع زيادة شعبية البرادعى، حيبقى قدام الأحزاب خيارين، إما أنها تنضم للتحالف ورا البرادعى، أو تفقد وزنها وتخرج من دائرة الاهتمام». الخطوة القادمة يناير 2010، قام بعض المتطوعين فى الحملة بإنشاء موقع رسمى لترشيح البرادعى رئيسا للجمهورية، وهنا حدث الاتصال الأول بين البرادعى والمجموعة. «اتصل بنا أفراد من عائلة البرادعى، أفضل عدم ذكر اسمهم، وأخبرونا أن الدكتور ممتن لمجهودنا»، والحديث لعبدالرحمن يوسف، وبقى الاتصال غير المباشر بين البرادعى والمجموعة من خلال أفراد أسرته، ليتولى نشطاء الحملة تنسيق استقبال البرادعى فى مطار القاهرة. وكان استقبال البرادعى لبعض أفراد الحملة فى منزله هو أول اتصال مباشر بين البرادعى والحملة. «استقبال المطار كان قلم وطرقع»، والحديث لناصر عبدالحميد. يعتقد ناصر أن عدد الذين حضروا إلى المطار كان مؤكدا لنجاح الحملة على كل المستويات، «فمن ناحية أثبتت الحملة قدرتها على أن حشد واجتذاب المؤيدين، ومن ناحية أخرى أرسلت للبرادعى رسالة بمدى حب الناس له». وإن لم يستطع البرادعى ترشيح نفسه، «فإحنا مكملين فى فكرة التغيير السلمى، كفاية إن إحنا حنكون اشتغلنا سنتين بهمة وبجد». يقول ناصر إن مصر 2005 تختلف عن مصر 2000، فالحركات الشعبية أصبحت أكثر قدرة على الالتحام مع الشعب والتعبير عن مشاكل الواقع. ويؤكد أن مصر 2011 ستكون أكثر جرأة ورغبة فى التغيير عن ذى قبل.