عندما جلست على مقعدى فى الطائرة التى أقلتنى لأول مرة إلى صنعاء لتسلم العمل بالسفارة هناك، وحلقت الطائرة فى السماء، فإننى وعلى غير العادة لم أقرأ صحيفة من تلك التى حملتها معى، ولم أخرج من حقيبة اليد الكتاب الذى لم أكن قد أتمتت قراءته وأخذته معى لأتم قراءته أثناء الرحلة، فقد كان لدىّ ما يشغلنى واستغرق كل تفكيرى عدة ساعات، وبقيت كذلك إلى أن تنبهت إلى مطالبة المضيفة لى بضرورة ربط الأحزمة استعدادا لهبوط الطائرة والنزول منها. كان يشغل تفكيرى أمور عدة، بعضها خاص بأسرتى التى تركتها فى القاهرة على أن تلحق بى فيما بعد ومن بين أفرادها ابنى البكر الذى كان مريضا وتوفى بعد ذلك أثناء وجودى فى اليمن التى كانت آخر بلد تتناسب ظروفه المناخية مع حالته المرضية، والبعض الآخر كان يتصل باليمن واختيارى للعمل به. هل كان ذلك تعويضا عن دور فاتنى فى تولى منصب السفير أم كان اختيارى يحمل تكليفا أن أعيد العلاقات المصرية اليمنية إلى سابق عهدها؟ فعندما انسحبت مصر عسكريا من اليمن بسبب عدوان 1967 فقد انسحبت أيضا سياسيا وتركت اليمن للمملكة العربية السعودية. وبقيت العلاقات دون المستوى المطلوب إلى أن توفى إلى رحمة الله الرئيس جمال عبدالناصر. وعندما جاء السادات إلى الحكم واتجه إلى إقامة علاقات استراتيجية مع الولاياتالمتحدة، ثم خطى خطوة أخطر بما عقده من اتفاقات فى كامب ديفيد، فإن اليمن لبى دعوة الرئيس الراحل صدام حسين لعقد مؤتمر قمة فى بغداد ووافق على قرارات هذه القمة التى كان من بينها قطع العلاقات السياسية والتجارية مع مصر حال توقيع الأخيرة على معاهدة سلام مع إسرائيل. وظلت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة مدة قرابة عشر سنوات. والعلاقات بين مصر واليمن تعود والعهدة على الأستاذ المرحوم عزة دروزة الذى سطره فى واحد أهم مؤلفاته تعود لزمن سحيق. فهو يرى أن باب المندب كان مغلقا وتتصل ضفتيه بعضها ببعض. وكان البحر الأحمر مجرد بحيرة كبيرة. وأن اليمنيين عبروا باب المندب على الأقدام ثم ساروا بمحازاة شاطئ البحر الأحمر حتى وصلوا إلى صعيد مصر حيث استوطنوا. بل إن اليمن شارك فى تأسيس جامعة الدول العربية. كما أن الإمام لبى دعوة الملك فاروق وحضر مؤتمر إنشاص لبحث سبل صد هجمة العصابات الصهيونية على فلسطين. كما أن الإمام عندما رأى أن يبعث ببعض أبناء اليمن للدراسة فى الخارج فقد اختار مصر تحديدا وإن كان قد اشترط إلحاق الطلاب اليمنيين بمدارس بعيدة عن القاهرة، فوزعوا بين مدارس طنطا وبنى سويف. وبقى السؤال الذى شغل بالى أثناء تحليق الطائرة. لماذا سمى اليمن بالسعيد؟؟ لقد سمعت إجابات عدة على هذا السؤال، لكننى قررت إرجاء معرفة الإجابة إلى أن أصل إلى اليمن وأتعرف عليه عن كثب. فى الفترة التى قضيتها فى صنعاء، ارتفعت أعداد الجالية المصرية إلى سبعين ألفا ولم يكن بينهم عامل واحد، بل شغلوا قرابة 80٪ من هيئة التدريس بجامعة صنعاء، وكذلك كلية أركان الحرب وكلية الشرطة إضافة إلى عدد من المتخصصين الذين شغلوا أماكن فى الجهاز المركزى للمحاسبات. وفى فترة عملى فى صنعاء، وقعت اتفاقية بمجلس التعاون الرباعى التى عارضتها بشدة فى برقيات وتقارير لأسباب عدة. من أهمها شعورى بأن وراء عقدها غرضا خاصا وأن عرابها كان الملك حسين وأظنها من المرات نادرة الحدوث أن يعارض سفير قرارا اتخذته رئاسة. وأملى أن تأتى الظروف التى تسمح لى بأن أكشف عن واحدة من غرائب السياسة المصرية. ومن حسن الحظ أنه أثناء فترة عملى فى صنعاء، فقد جرت مباحثات الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه. وعملت ما وسعنى الجهد دون تعليمات من رئاستى لتذليل العقبات بالتعاون مع المرحوم أمين رضوان الذى قضى عدة سنين فى جنوب اليمن وكانت تربط بقيادته أوثق العلاقات عندما أعلن الدكتور عبدالكريم الإريانى قيام الوحدة الساعة الثانية عشرة ظهرا، فقد ملأت صورة صدام حسين شاشة التليفزيون. وتلا المذيع نص برقية بالتهنئة بقيام الوحدة. وتلاها برقيات رئيسة وزراء بريطانيا والرئيس الأمريكى وباقى رؤساء الدول. ومضى اليوم الأول والثانى والثالث دون أن تبعث القاهرة ببرقية تهنئة بما دفعنى إلى الاستغاثة برئاسة الجمهورية بالقاهرة، وأتت برقية فى سطرين ولم تنشر إلا فى اليوم الرابع!! فقد أتت متأخرة بعد انتهاء الصحف اليمنية من الطباعة!! بعدها بشهرين جاء الرئيس إلى اليمن للتهنئة. وكان مرورا عابرا.. إذ كان فى طريقه إلى حضور مؤتمر الاتحاد الأفريقى فى أديس أبابا. يومها سألنى وزير الخارجية آنذاك الدكتور عصمت عبدالحميد عن أحوالى فقلت ما نصه «إننى أشعر بأننى أؤذن فى مالطا..! بعدها بفترة ظهرت الحركة الدبلوماسية ووجدت نفسى منقولا إلى مالطا!! ونعود إلى السؤال: هل يمكن أن يصبح اليمن سعيدا؟ وإجابتى نعم.. لكن ذلك يحتاج إلى جهد يمنى وجهد مصرى وجهد خليجى. وأن هذا الجهد لابد أن يبذل بإخلاص، وحالا ودون تأخير.. أولا: يتميز موقع اليمن الجغرافى بإطلاله على المحيط الهندى والمدخل الجنوبى للبحر الأحمر وهو من أهم الممرات البحرية لناقلات النفط إلى أمريكا وأوروبا وهو ما يفسر الوجود الكثيف للأساطيل الحربية فى هذه المنطقة، ولا يعقل أن يترك اليمن وحده يواجه القرصنة التى تهدده وتهدد التجارة العالمية. ثانيا: الإرهاب الدولى الذى يتزعمه تنظيم القاعدة من أبرز العوامل التى تثير اهتمامات الولاياتالمتحدة وأوروبا باليمن. ذلك أن عددا من عناصر من يسمون بالمجاهدين العرب سابقا فى أفغانستان لم يجدوا المأوى سوى فى أحضان اليمن. والنيجيرى الذى ضبط فى الولاياتالمتحدة وهو يحاول نسف طائرة قادمة من أمستردام قد اعترف بأنه كان يتعلم العربية فى اليمن، وأنه تأثر بفكر إمام مسجد فى اليمن. ثالثا: الأوضاع الاقتصادية هى فى أسوأ حالاتها خاصة بعد أن اقترنت بالفساد الذى تفشى على كل المستويات. رابعا: التمرد الحوثى الذى اصطدم بالدولة اليمنية فى حروب ست يحتاج إلى معالجة، خاصة أن المتمردين لم يتعهدوا بوقف التمرد إنما قبلوا فقط الهدنة وشروط الحكومة اليمنية. وهذا لا يعنى إنهاء التمرد وأسبابه. خامسا: يعانى اليمن أيضا مما يسمى «بالحراك الجنوبى» الذى يتهدد وحدة اليمن وهو يحتاج إلى بحث دواعيه ومعالجتها بطرق مختلفة ليس من بينها المعالجة البوليسية والقمعية. سادسا: إن اليمن يفتقد إلى ما يسد احتياجاته الغذائية كما يفتقد إلى الصناعة التى يمكنها أن تستوعب أعداد العاطلين عن العمل سواء من خريجى المدارس والجامعات أو الذين لا يملكون سوى قوة سواعدهم. سابعا: إن لليمن وضعا خاصا، حيث إن الحكومة المركزية لا تستطيع فرض سيطرتها الكاملة إلا على العاصمة وضواحيها. وولاء المواطن هو للقبيلة وهو أمر بات من الضرورى معالجته. ثامنا: رغم كل مثالب الحياة الديمقراطية فى اليمن، فإن وحده ينفرد دون باقى دول الجزيرة العربية وإمارات الخليج بوجود برلمان وأحزاب ونظام جمهورى على غير أنظمة الحكم العشائرية السائدة فى المنطقة. اليمن يمكن أن يكون سعيدا لو تمكن من إصلاح أوضاعه السياسية والاقتصادية. وهذا الدور مناط بقادة الحكم فيه كما هو مناط بمجلس التعاون الخليجى. ويبقى الدور المصرى وهو مهم لكن مصر تحتاج هى الأخرى إلى من يأخذ بيدها!!