إلى اليابان ذهبت فى رحلة لم تكمل أسبوعاً، تهيأت للفرجة عليها محتشدة بكل ما قرأته عنها أو شاهدته مصوراً، عالم من القديم والحديث من الأصالة والعصرية من النظام والدقة والاتزان والأدب والاتقان والعمل ضمن منظومة الجماعة، وكأن الطائرة التى أقلتنى إلى هناك كانت هى آلة الزمن التى تجلس فيها وتدير محركها فتتحرك إلى الأمام، فى الزمن وليس فى المكان، تتحرك إلى المستقبل بعد مئة أو مئتين أو ثلاثمائة سنة، من القاهرة إلى طوكيو اثنتا عشرة ساعة وآلاف الأميال وسبع ساعات فرق توقيت، وسبعمائة سنة فرق تقدم. ثم تهيأت من جديد للعودة من طوكيو إلى القاهرة بعدما أتيحت لى الحياة فى المستقبل هناك لأيام، وعلى طائرة مصر للطيران مددت يدى للجرائد والمجلات، كانت كلها وبلا استثناء وعلى صفحاتها الأولى وحتى الأخيرة تتحدث عن النقاب، شعرت بغصة واحتقان، نقاشات ومعارك واتهامات بشأن قضية قضايا العصر والأوان النقاب، لمن هذه الصحافة ؟ لمصر أم باكستان أو أفغانستان أو حتى الصومال، حاولت المقاومة لكن آلة الزمن تشدنى إلى الخلف إلى الماضى إلى العصور الوسطى المظلمة باتهامات الكفر والعصيان والبحث عن صكوك الغفران، تضيق الدنيا حتى لا تُرى إلا من ثقب فى رداء أسود، تضيق وتضيق حتى تكتم الأنفاس والمشاعر والأمنيات وتقتل المستقبل، تتأرجح آلة الزمن وتتوقف وأهبط منها إلى مطار القاهرة. بعد أيام زال فيها فرق التوقيت ومعه بعض آثار الصدمة الحضارية جلست لأسترجع بعض ما شاهدت فى رحلتى القصيرة إلى العاصمة اليابانية، وأبدأ بالدعوة لحضور مهرجان طوكيو السينمائى الدولى وعلى هامشه بانوراما للسينما المصرية فى سابقة أولى للسينما العربية والأفريقية ضمن هذا المهرجان، جاءت الدعوة بالاتفاق مع السفارة المصرية والسفير د.وليد عبدالناصر الذى يجمع بين الدبلوماسية والكتابة الأدبية والفنية والسياسية ويدير السفارة بالمنهج اليابانى المتميز بالدقة الشديدة والتنظيم وتوزيع الأدوار مما يجعل من أدائها نموذجاً نأمل تكراره فى سفارات مصر بالخارج، تبنّى المهرجان هذه السنة شعاراً هو العمل من أجل الأرض أو التحرك من أجلها ومواجهة ممارسات الإنسان الضارة للكرة الأرضية ورمز المهرجان كوكب الأرض المكسى باللون الأخضر ومسجل عليه بخطوط رفيعة صور حيوانات ونباتات وطيور ومخلوقات بشرية ترمز للشراكة على الكوكب، نشرات المهرجان كلها باللون الأخضر وسُجل عليها أنها من ألوان غير ضارة بالبيئة، كما استبدلت السجادة الحمراء الشهيرة فى مهرجانات العالم بسجادة خضراء وديكورات بنفس اللون، بطاقات الدخول والحضور والتعريف بالضيوف والعاملين كلها بالأخضر، وبعد فاصل مشهود من التنظيم البارع الذى لا يخطئ وكخلايا النحل كان العاملون يتحركون ويحركون النجوم والضيوف من وإلى الأماكن المختلفة الخاصة بالمهرجان، كل شىء بحساب وفى توقيته الصحيح وبلا هرج أو مرج، كان افتتاح المهرجان فى قاعة العرض بسيطاً أنيقاً بلا استعراضات راقصة أو مقتطفات تمثيلية كما تعودنا فى مهرجاناتنا، ثم بعض الكلمات منها كلمة لرئيس الوزراء اليابانى الذى جاء فى سيارة عادية وقفت بعيداً وسار بلا ضجة أو مرافقين أو حرس إلى باب الدخول. ثم جاء فيلم الافتتاح، وعنوانه (المحيطات)، فيلم وثائقى من أروع الأفلام التسجيلية التى يمكن أن تشاهدها فى حياتك، يتفق اختياره مع شعار المهرجان الذى يدعون إلى حماية الأرض ومن وما عليها، الفيلم فرنسى ومدته تصل إلى مئة وثلاث دقائق واستغرق العمل به أربع سنوات ورحلات لخمسين مكاناً وعرض لأكثر من مئة مخلوق بحرى تحويها محيطات العالم ومعظمها أشك أن أحداً منا قد رآها من قبل، بعضها فارع الطول يكاد يصل إلى ارتفاع مبنى من عدة أدوار، وبعضها ضخم كقاطرة كبرى أو طائرة تبرز من تحت المياه، معدات للتصوير استخدمت لأول مرة تم الحصول بواسطتها على صور نادرة ولقطات مبهرة، قدرة غير مسبوقة على تتبع سلوك هذه المخلوقات تحت المياه وتسجيل حركتها بسرعتها الحقيقية. ويبدو الفيلم من فرط إتقانه كما لو كان فيلماً روائياً به ممثلون وقصة وبداية ونهاية، كانت البداية لهذا الفيلم سؤال من طفل، ما المحيط؟ والإجابة ثروة تسجيلية لما تحت سطح كل محيطات الأرض، والنهاية عرض لدمار وانقراض وموت كثير من هذه المخلوقات المائية والطيور والبرمائيات مع تلوث البيئة والصيد الجائر الذى يسببه الإنسان ودعوة لتحقيق (الانسجام) بين الإنسان والطبيعة حيث إنه لا يمتلك وحده حق الحياة على كوكب الأرض بل تشاركه مخلوقات أخرى، أخرج الفيلم من يطلقون عليه مايسترو الأفلام الوثائقية الفرنسى جاك بيران، وشاركه فى كتابة السيناريو والإخراج جاك كلوز ولا تمتلك وأنت تشاهده إلا أن تردد سبحان الله، سبحان الخالق، وأن تفتح فاهك مشدوهاً بهذا الخلق العظيم الذى لم يعطنا الله حق تدميره. [email protected]