ثمة اتفاق بين الخبراء المعنيين على أن الإهمال البشرى أسهم فى تفاقم كارثة السيول التى ضربت جنوب مصر وشمالها، الأمر الذى أدى إلى تدمير مئات البيوت وتشريد الآلاف من البشر، ورغم أن تلك حقيقة لم يختلف عليها أحد. إلا أننا لم نقرأ أو نسمع أن أحدا من المسئولين عن ذلك الإهمال تعرض للمساءلة أو المحاسبة، الأمر الذى غدا دليلا آخر على شيوع «ثقافة الاستهانة» فى المجتمع، التى باتت تهدد كيان الوطن. وهذه الجملة الأخيرة ليست من عندى، ولكنى اقتبستها من مقال للدكتور سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس، نشرته له جريدة «الشروق» فى 7/2 الحالى ووجدت أنه يثير قضية غاية في الأهمية ينبغي أن تكون موضوع حوار واسع، لأنها تتعلق بمستقبل البلد وأهله. فى مقاله ذكر الدكتور نعيم تعليقا على الإهمال الذى جرى فى كارثة السيول أن فى مصر استهانة أو عدم حرص على كل شىء تقريبا. استهانة بموارد مصر المائية ومصادر ثروتها، واستهانة بحياة الإنسان وسلامته وصحته وأمنه وكرامته. وبعد أن ضرب أمثلة لنماذج تلك الاستهانة قال إننا: بصدد منظومة عامة من القيم الاجتماعية ذات الطابع السلبي، التى توجه سلوكيات المسئولين الحكوميين والمواطنين على اختلاف مواقعهم. وهذه القيم مهدرة للثروة القومية ومهددة لحياة البشر وسلامتهم، وفوق ذلك معوقة للتنمية وللتطور الاجتماعي بصفة عامة. ولحل ذلك الإشكال فإنه دعا لأن تتولى الجهات الحكومية والأهلية بلورة منظومة قيمية إيجابية بناءة، ووضع إستراتيجية جديدة للحلم المصرى، بما تشتمل عليه من سياسات وخطط لتنفيذه. وإذ وصف هذه الإستراتيجية بالمشروع النهضوى ، فإنه اعتبرها الخطوة الأساسية الأولى لتعديل منظومة القيم الاجتماعية أو صياغة منظومة جديدة تخدم ذلك الحلم وتجسده على أرض الواقع. هذه الخلاصة لفكرة الدكتور نعيم، التى أرجو ألا تكون مخلة كثيرا، أتفق مع منطوقها الأساسي، لكن لى عليها ملاحظتان، الأولى فى التشخيص والثانية فى العلاج. فى التشخيص لاحظت أنه وضع السلوكيات السلبية للمسئولين الحكوميين والمواطنين على قدم المساواة. وفى ذلك ظلم للناس، لأن الحكومة فى حقيقة الأمر تقوم بدور المربى للمجتمع، وهى بأدائها وبالنموذج الذى تقدمه تعد المسئول الأول عن شيوع ثقافة الاستهانة فى أرجائه. وتحضرني هنا مقولة للفيلسوف الفرنسي هلفيتيوس (فى القرن الثامن عشر) ذكر فيها أن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد. بمعنى أن الشعب لا يؤثر فى طبيعة السلطة، وإنما تؤثر السلطة فى خصائص الشعب وأخلاقه. وهو ما خلص منه إلى أن السلطة مسئولة عن مساوئ الشعب كما أنها مسئولة عن محاسنه. لقد شاعت ثقافة الاستهانة فى المجتمع لأن السلطة استهانت بالناس وبالقانون، واعتدت على حرمة الاثنين، وإذا صح ذلك التشخيص فإن العلاج لابد أن يبدأ بأصل المشكلة ومصدرها. بمعنى أن يدرك كل مسئول فى السلطة أن هناك مجتمعا بمقدوره أن يحاسب وأنه ليس فوق القانون. الأمر الذى يضع قضية الديمقراطية والحريات العامة فى الواجهة.ويعتبرها مفتاح أزمة الاستهانة والمدخل الصحيح لتقويمها. إذ فى غيبة الديمقراطية وفى ظل قانون الطوارئ وإزاء ومختلف القيود المفروضة على حرية تشكيل الأحزاب و الحق فى التعبير، فإن أى جهد يبذل لبلورة منظومة القيم الإيجابية المنشودة أو لطرح المشروع النهضوى سيظل محكوما بسقف الأوضاع القائمة وملعوبا فيه بواسطة أذرعها الظاهرة والخفية. ولا ينسى فى هذا الصدد أن كل القوانين السيئة السمعة التى صدرت وكل التعديلات المريبة التى أدخلت على الدستور جرى تمريرها من خلال مؤسسات صممت لكى تكون تعبيرا عن صوت الشعب. وقد أدت مهمتها بكفاءة مشهودة بعد تغيير لحرفين اثنين فقط، تحول بمقتضاه الصوت إلى سوط بسيطة!.