المركزي الأميركي يبدأ سياسة تيسير نقدي بخفض كبير للفائدة    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: القرار الأممي نقطة تحول في مسار نضالنا من أجل الحرية والعدالة    قصف غزة.. الاحتلال يغلق شارع روجيب شرق نابلس بالسواتر الترابية    جورجينا رودريجز تزور مدينتها وتحقق أحلام طفولتها الفقيرة (صور)    قراصنة إيرانيون أرسلوا لحملة بايدن مواد مسروقة مرتبطة بترامب    تشكيل برشلونة المتوقع أمام موناكو في دوري أبطال أوروبا.. من يعوض أولمو؟    موجة حارة لمدة 3 أيام.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس اليوم الخميس    بعد تفجيرات البيجر، إسرائيل تتوعد حزب الله ب وسائل أخرى    أحداث الحلقة 3 من «برغم القانون».. الكشف عن حقيقة زوج إيمان العاصي المُزور    محلل إسرائيلي: حزب الله ارتكب 3 أخطاء قاتلة فتحت الباب أمام الموساد لضربه بقوة    عمرو سعد يُعلن موعد عرض فيلم الغربان ويُعلق: المعركة الأخيرة    كيفية الوضوء لمبتورى القدمين واليدين؟ أمين الفتوى يوضح    جوميز يحسم مشاركة فتوح أمام الشرطة الكيني    أيمن موسى يكتب: سيناريوهات غامضة ل«مستقبل روسيا»    شريف دسوقي: كنت أتمنى أبقى من ضمن كاست "عمر أفندي"    خبير: الداخل الإسرائيلي يعيش في حالة زعر مستمر    حقيقة الذكاء الاصطناعي واستهلاك الطاقة    الخارجية الأمريكية ل أحمد موسى: أمريكا مستعدة لتقديم خدمات لحل أزمة سد النهضة    موعد مباراة مانشستر سيتي وأرسنال في الدوري الإنجليزي.. «السيتيزنز» يطارد رقما قياسيا    «افتراء وتدليس».. رد ناري من الأزهر للفتوى على اجتزاء كلمة الإمام الطيب باحتفالية المولد النبوي    موعد صرف معاشات شهر أكتوبر 2024    الأهلي لم يتسلم درع الدوري المصري حتى الآن.. اعرف السبب    «أنبوبة البوتاجاز» تقفز ل 150جنيهًا    تفاصيل مصرع مُسن في مشاجرة على قطعة أرض في كرداسة    بالاسم ورقم الجلوس.. نتيجة تنسيق المرحلة الثالثة للقبول بالجامعات (رابط مباشر)    "ماتت قبل فرحها".. أهالي الحسينية في الشرقية يشيعون جنازة فتاة توفيت ليلة الحنة    مصدر أمني ينفي انقطاع الكهرباء عن أحد مراكز الإصلاح والتأهيل: "مزاعم إخوانية"    طفرة عمرانية غير مسبوقة واستثمارات ضخمة تشهدها مدينة العاشر من رمضان    عقب تدشينها رسميا، محافظ قنا ونائبه يتابعان فعاليات اليوم الأول من مبادرة "بداية جديدة "    لو عاوز تمشيني أنا موافق.. جلسة حاسمة بين جوميز وصفقة الزمالك الجديدة    دورتموند يكتسح كلوب بروج بثلاثية في دوري الأبطال    آيتن عامر بإطلالة جريئة في أحدث ظهور..والجمهور: "ناوية على إيه" (صور)    بشاير «بداية»| خبز مجانًا وقوافل طبية وتدريب مهني في مبادرة بناء الإنسان    عبير بسيوني تكتب: وزارة الطفل ومدينة لإنقاذ المشردين    حامد عزالدين يكتب: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم    الشاب خالد: اشتغلت بائع عصير على الطريق أيام الفقر وتركت المدرسة (فيديو)    إيمان كريم تلتقي محافظ الإسكندرية وتؤكد على التعاون بما يخدم قضايا ذوي الإعاقة    تراجع بقيمة 220 جنيهًا.. سعر الحديد والأسمنت الخميس 19 سبتمبر 2024 بعد التحديث الجديد    كشف حقيقة فيديو لفتاة تدعي القبض على شقيقها دون وجه حق في الإسكندرية    هل موت الفجأة من علامات الساعة؟ خالد الجندى يجيب    «استعلم مجانًا».. نتيجة تنسيق المرحلة الثالثة 2024 علمي وأدبي فور إعلانها رسميًا (رابط متاح)    كيفية تحفيز طفلك وتشجيعه للتركيز على الدراسة    السفر والسياحة يساعدان في إبطاء عملية الشيخوخة    أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد وتخلصه من السموم    بلقطات عفوية.. هنا شيحة تبهر جمهورها في أحدث ظهور لها (صور)    «طعنها وسلم نفسة».. تفاصيل إصابة سيدة ب21 طعنة علي يد نجل زوجها بالإسماعيلية    صلاح التيجاني: والد خديجة يستغلها لتصفية حسابات بعد فشله في رد زوجته    بخطأ ساذج.. باريس سان جيرمان يفوز على جيرونا في دوري أبطال أوروبا    قمة نهائي 2023 تنتهي بالتعادل بين مانشستر سيتي وإنتر ميلان    عقب تدشينها رسميًا.. محافظ قنا ونائبه يتابعان فعاليات اليوم الأول من مبادرة «بداية جديدة»    حقيقة عودة إضافة مادة الجيولوجيا لمجموع الثانوية العامة 2025    نشاطك سيعود تدريجياً.. برج القوس اليوم 19 سبتمبر 2024    الفنانة فاطمة عادل: دورى فى "الارتيست" صغير والنص جميل وكله مشاعر    صحة مطروح تقدم 20 ألف خدمة في أولى أيام المبادرة الرئاسية «بداية جديدة».. صور    محافظ القليوبية يكرم المتفوقين في الشهادات العامة بشبرا الخيمة    عاجل - قرار تاريخي:الاحتياطي الفيدرالي يخفض الفائدة إلى 5.00% لأول مرة منذ سنوات    من الأشراف.. ما هو نسب صلاح الدين التيجاني؟    خسوف القمر 2024..بين الظاهرة العلمية والتعاليم الدينية وكل ما تحتاج معرفته عن الصلاة والدعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحذر واجب.. ولكن هل يمكننا التفاؤل؟
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 03 - 2009

شىء ما يحدث فى مصر. ثمة مؤشرات لتحول محتمل فى خريطة البلاد السياسية، وفى موازين القوى الاجتماعية، تومض حينا وتنطفئ أحيانا، ولكنها تومئ إلى مسار جديد يشق طريقه فى ربوع البلاد، فى تؤدة ودون إعلان صريح، نراه ولا نكاد ندركه، ونسمعه ولكننا نعجز عن تمييز ما يهمس به.
أقول ذلك، وأنا أتحسب له ألف حساب، فالتنبؤ فى بلادنا خطر، وأخطر منه التفاؤل.
حذرى من التفاؤل له ما يبرره. فمنذ عام أو أكثر شرعت فى إعادة قراءة بضع مئات من المقالات كتبتها (بالإنجليزية) خلال الأعوام الخمسة عشر السابقة، (بناء على اتفاق مع إحدى دور النشر على إعداد مجموعة مختارة منها للنشر فى صورة كتاب)، وكان مما لفت نظرى فى تلك المراجعة، ندرة المقالات التى تنطوى على نبرة تفاؤل أو تنبئ بتغيير نحو الأحسن، فى مقابل وفرة مخيفة لتلك التى ترصد وتحاول أن تحلل مظاهر التدهور المتواصل فى أحوال المصريين والعرب على مختلف الأصعدة.
ولم تكن المسألة فى الواقع تتعلق بنظرة سوداوية للحياة، ولا علاقة لها بالقطع بالمثال الشهير، السخيف والمعاد، حول «نصف الكوب»، فارغا كان أو ملآن، بل كانت فى المحل الأول تعبيرا عن مسعى للصدق مع النفس، ومن ثم مع القارئ، وحيطة ضد الوقوع فى أسر داء شائع عندنا، ألا وهو الخلط بين أمنياتنا وواقعنا.
غير أن تلك الرحلة فيما كتبته خلال 15 عاما، بدأت ببادرة صدام حسين المشوشة جغرافيا لتحرير فلسطين عبر الكويت، وانتهت باحتلال العراق وتدميره، قادتنى إلى اكتشاف آخر، أمضى وأشد إيلاما، وهو أن الغالبية الساحقة من توقعاتى غير المتفائلة ثبت صحتها، فى كثير من الأحيان بأسوأ مما توقعت، بينما لم أكد أعثر على نبوءة متفائلة واحدة نجحت من خلالها فى استشراف ما قدر له أن يجرى بالفعل.
مصائب أوسلو، على سبيل المثال لا الحصر، فاقت أكثر توقعاتى تشاؤما، ولكن فورة الأمل التى أثارها فى نفسى اندلاع الانتفاضة الثانية فى أواخر 2000، والتى تصورتها منبئة بتحول حاسم فى مسار النضال الوطنى الفلسطينى، لم تمض شهور إلا وسقطت منتحرة أو مستشهدة، سمها ما شئت، ضحية إعلاء كل من فتح وحماس لتنازعهما على «عمودية» بانتوستان الضفة وغزة، على حساب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطينى.
الحذر واجب إذن، ويمكننى وقد أرحت ضميرى تجاه القارئ، بعد أن اعترفت أمامه بضعف كفاءتى فى التوقع المتفائل المضى فى محاولة رسم ملامح ذلك الذى يحدث فى مصر، والتعرف على خصائصه، ومن ثم تلمس ما قد يحمله من تبعات للمستقبل السياسى لهذا البلد.
موضوع حديثى هو موجة الإضرابات والاحتجاجات الجماعية التى انطلقت فى أنحاء مصر خلال العامين الماضيين، وبلغت ذروة مدهشة خلال الشهور المنصرمة من العام الجارى، ففرضت نفسها على الجميع، حكومة ومعارضة ووسائل إعلام، باعتبارها الظاهرة السياسية والاجتماعية الأهم فى البلاد. ولعل إضراب الصيادلة كان هو الحدث الأكثر إبهارا وإدهاشا بين الأحداث اليومية المتواصلة والمتنامية لموجة الاحتجاج الجماعى. مع إضراب الصيادلة اتضح تماما أن تقاليد الاحتجاج الجماعى قد بدأت فى الانتقال، بل فى التدفق من أصحاب الياقات الزرقاء إلى العمال، وكان عمال غزل المحلة فى مقدمتهم خلال الفترة الأخيرة، وإلى أصحاب الياقات البيضاء من الموظفين والمهنيين.
ومن المثير للدهشة حقا فى حالة الصيادلة، هو أنهم بحكم طبيعتهم المهنية ربما يكونون من أقل الفئات المهنية قابلية للعمل الاحتجاجى الجماعى، فغالبيتهم العظمى أصحاب «محلات»، لا تجمعهم شركة أو مؤسسة. ولعل هناك خاصية أخرى لمهنة الصيدلة فى بلادنا تزيد من دهشتنا تجاه النجاح الساحق لإضراب أبنائها، فمن المعروف أن نسبة الأقباط مرتفعة بين صفوف الصيادلة ربما بأكثر منها فى مهن كثيرة أخرى (لا تشمل الكهنوت بطبيعة الحال)، وذلك فى حين أن مجلس نقابة الصيادلة مسيطر عليه من قبل الإخوان المسلمين، الأمر الذى يضعنا أمام مؤشر لافت، وقد يكون مهما جدا لمستقبلنا السياسى، عن قابلية الاحتجاج والتضامن الاجتماعى على تخطى الأسوار المنيعة للانتماءات الأيديولوجية والطائفية، وربما على مدى أطول، إعادة صياغتها.
ظاهرة الاحتجاج الاجتماعى الجماعى أصبحت ملء السمع والبصر، العنوان الأبرز والأهم للممارسة الاجتماعية والسياسية فى البلاد الآن، وأتصور لزمن غير قصير مقبل. مع أواخر السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضى، كان «شعار المرحلة» غير المعلن هو «احزم أمتعتك وارحل»، صوب بلدان الخليج، أو ليبيا أو العراق أو غيرها. ولعلنا نشير أيضا إلى أن التسعينيات طرحت علينا بجانب الشعار السابق شعارا آخر أقل شيوعا وأشد وطأة، ألا وهو شعار «احمل بندقيتك أو سيفك أو قنبلتك، واقتل ودمر».
أما الآن فيبدو أن شعارا جديدا غير معلن بدوره، قد احتل الصدارة، مستبدلا الحل الفردى بحل جماعى يقوم على التضامن بين أبناء المهنة أو زملاء العمل أو جيران الحى وتنظيم الاحتجاج السلمى، كأن لافتة كبرى علقت فى سماء مصر تقول لكل من لهم مظالم: «تضامنوا واحتجوا»، عندها فقط تحصلون على حقوقكم، أو على قدر منها.
هناك مفارقة كبرى مع ذلك، سبق أن أشرت لها بصورة عابرة فى هذا المكان، وهى الانفصال شبه التام بين ظاهرة الاحتجاج الاجتماعى الجماعى، وصارت تشمل الملايين، وبين «المجتمع السياسى»، حكومة ومعارضة، برلمانا وسلالم نقابة صحفيين، ويضم جماعة من الناس تطلق على نفسها اسم «النخبة»، ويمكن أن تزيد من التفخيم الذاتى بأوصاف من قبيل طليعة المجتمع، أو ضميره، أو صوته، الخ.
وعندى، فإن ما يحدث على صعيد الاحتجاج الاجتماعى الجماعى أكثر أهمية بكثير، ومن شأنه أن يترك آثارا أبعد مدى بما لا يقاس على المستقبل السياسى بل والفكرى للبلاد من كل ذلك «الصخب والعنف» الذى جرى ويجرى على نطاق «الخمسة فدادين» التى يشملها المجال السياسى فى مصر (والممتدة تقريبا من مجلسى الشعب والشورى فى قصر العينى، وحتى نادى القضاة فى عبدالخالق ثروت).
ولست أقلل قط من تضحيات وشجاعة النخبة السياسية، شيوخا وكهولا وشبابا، فى نضالهم خلال السنوات الماضية من أجل الديمقراطية، وضد الفساد والقهر. ولكننى أعترف بأننى لم أشعر فى أى لحظة، منذ عام «الحراك» فى 2005 وحتى الآن، بأى قدر من الثقة فى أن هذه التحركات والنضالات والاحتجاجات مؤهلة لأحداث تغيير يذكر فى واقعنا السياسى أو الاجتماعى أو الاقتصادى.
كان للمناضل المصرى العظيم، ومحامى الحريات النبيل، نبيل الهلالى مقولة شهيرة طالما عزيت بها نفسى. كان الهلالى (طيب الله ثراه) يقول: «الشعب المصرى مثل النيل، تسعة أشهر تحاريق، وثلاثة أشهر فيضان». وقد قضى أبناء جيلى وقضيت معهم القسط الأكبر من العمر فى انتظار فيضان لم يجىء. كان ذلك حتى بادرنى خاطر خبيث بأن مقولة الهلالى ربما لم تعد تصدق على الشعب المصرى، مثلما لم تعد تصدق على نيل ما بعد السد العالى.
وأتصور، فى ضوء ما يجرى فى بلادنا هذه الأيام، أن الأكثر صوابا هو أن نعيد رسم صورتنا للفيضان، فثمة فيضان مدمر يأتى على الأخضر واليابس، وآخر باعث للحياة، يأتى بالخصوبة والنماء. موجة الاحتجاجات الاجتماعية الجماعية التى تغمر حياتنا السياسية والاجتماعية هذه الأيام توحى بإمكانية فيضان من النوع الثانى، وذلك بقدر ما تنجح هذه الموجة فى خلق شعب منظم، وواع، تحترم فئاته المختلفة التنوع والتعدد واختلاف المصالح فيما بينها، وتعتمد أساليب الاحتجاج والتفاوض الجماعى السلمى كسبيل لصياغة إرادة الشعب، لا بوصفها إرادة مجسدة فى زعيم ملهم أو نخبة حاكمة ما، ولكن بوصفها نتاج، وحصيلة واقعية وعينية لحوار مستمر ومفاوضة مجتمعية متواصلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.