يتجاوزها المساءُ بخطوة واحدة تتجاوز المساء بخطوتين هيَّ تمنحُ دخانها البكر زوايا دمعتها الحادة ، تكتبُ إسمه مرارآ ثم تكورهُ وترميه في جوف مسلة لا تكاد تكون قريبةً من ماضيها . يأخذُها الحصادُ بعيدآ ، إذ المناجل تترا ، والدمع العصي عصا لسنينها التي لا تمضي . كانت تراهُ وهي تنام على قصيدتها المبتورة ليلآ ، حينآ تفركُ يديها فتُضرمُ رائحته في أرجاءِ ثوبها ، و حينآ يفركُها الغيابُ فتُضرمُ هيَّ في أرجاء حضرتهِ . دُخان على حافةِ خنجر حصادُها ، بين الطفولةِ و خُطى المشيب حصى تلهو به الأمتعة . كانت فتاةَ الثلاثين إذ أدركتها أسواط المشيب فإستيقظتْ ، كانت فتاةَ الثالثة عشر إذ إنبثقت منها رائحة الإناث و لونها . ( سبأ) و ذلك الزمن الهشُّ الصغير . (سبأ ) وقارعة الرُسل وخيمة اللاجئين المُرتقة بثلاثِ سنين عُجاف ، السنابل والرسائل ، القنابل و القبائل و أنا هُنا إذ كم أنا في كل هؤلاء . كانت الصباحات فم راهب يعلو سُلم حُنجرتهِ الدعاءُ كانت المدينة تجمع أزقتها الصغيرة عند حافة الشمس ، وكان النخيل رفيق حقيبتها المدرسية إذ يشاكسُ دُماها الورقية من بعيد . ما بين الطفولة وصدى لولبي كانت تُهربُ وجنتيها لسطحِ دارهِ. كان أسمها يُمسكُّ رسالة كثيفة الطُرق ، يستديرُ فيها الإحتلالُ ، تستديرُ هيَّ : البنادق حربُ الذات مع الغُزاة ، البنادق سنابل الوطن ونحنُ ، حين يُغزى القلب من الداخل تنفذ ذخيرة الوطن ، ويخرجُ لك الغُزاة من الأكواب والأواني ، الغُزاة غزاة الحروب ، الغزاة غزاة القلوب ، الغزاة غزاة الجسد ، الغزاة غزاة الفكرة ، للتاريخ عُري يشغل المدن عن الفقراء وعن العاشقين و عني .. ترفعُ بصرها لسقفِ غُرفتها الخجلة ، تُلاحقُ سُبُلآ كادتْ تفلتُ من عصاها ، يأتي الثلاثاء بالخُبزِ والحلوى ، و يأتي الأربعاء بكَ ، أيّ سبت سيحملُك . ماذا يخرج من إنجيلك حين تزرع مفاتيح دارك عند جارك ، للنهر الذي لمْ يقعْ نُغني ، للنساءِ التي تلدُ الذكور نُغني ، للحقيقة التي لا نرتديها نُغني . ترفعُ عنها سطوة العزلة بتلك الفتوحات المؤجلة . و أُباعُ كما تُباع الحلوى ، قطعآ صغيرة ، قطعآ كبيرة ..أُباعُ . تأتي النوافذ بالستائر القديمة إذ يعلق فيها صوت أُمها ، ضجة في الأواني والأطباق ، حين كانت تُعدُ طعامآ لضيوفٍ أنهكها حمل الأثاث والمنازل ، إذ هُناك من يحملُ منزلهُ الدليل أينما ذهب . يختالُ الجميع فضول قديم الطرازِ والرائحة : لمن هذا يا أمي ؟ الأمُ : لجيراننا الجُدد ، هُم ضيوف مائدتنا الليلة . سبأ : لا أُحبُ الغرباء ضعي لي طعامي في المطبخ أمي رؤى : وأنا كذلك أحمد : و أنا أيضآ الوالد : أنا من يُشارك ضيوفهُ الطعام . صمت الجميع نظروا لبُركةِ أوهامهم ، وجدوا وجوهآ تتموج ، مضوا بفشلٍ مفرط الأذيالِ . لمْ تكُن تعبأُ بتلك القهقهات العارية مساءً ،تُتمتمُ أكرهُ غسل الأطباق ، رباه لا طاقة لديَّ لأُفرغ أيامي ، تضع رأسها بين ركبتيها ، يتثاءبُ ثوبها و يتثاقل عن النهوض ، تمسك أكمامهُ تجرهُ رويدآ رويدآ كأنهُ سرب من النوارس ، فينهض فيها الياسمين و يشرأبُ . يخلد الجميع للنوم ، تغسل عُزلتها بجُمل المياه المتدفقة ، تُتقنُ تنظيف كل شئ إلّا ذاكرتها ، تأخذُ الأسِرةُ غطاءها البشري لتُدفئ خشبها الجماد . تفتحُ سبأ أنفاسها قليلآ و تدخل غرفة الضيافة ، تشعلُ أضواءها القريبة جدآ من أضلاعها ، تجلس على أريكتها المفضلة و مكانها المفضل ، تطرقُ أنفها رائحةٌ عطِرة ، تكاد تمحو ذلك التعب , تساءلتْ لمن تكون ؟ وفي شئٍ من اللامُبالاة ، تُدحرجُ جسدها النحيف لتنام كألهةٍ عليها ، يتكورُجسدها كقطةٍ صغيرةٍ صفراء ، يقضمها البردُ من كل زاوية ، تستيقظ لتمنح الصمت ضجيج شعرِها المنسدل ، تبصر الوقت إنها الثالثة ، تُسرع لسريرها المزدم بالأغطية ، تزج جسدها فيه بقوة ، يأخذُ الليل غطاء الليل البديل لينام هو الآخر بقُربها ، للشتاء صفة الملوك ترفٌ في الكسل والحُلي والدثار . يعلو صوتُ الأم كجرس كنيسةٍ رطب ، إنها السادسة إستيقظوا ، ترددها مرارآ حتى تكاد أن تفلت حنجرتها منها لولا إصطدامها بشاي الصباح ، ينهض الجميع يهرولون خلف جملة صباح الخير يرمون بها في كل جانب ، يتناولون الترف المُعد في الأطباق ، يتحدثون عن ضيوف الأمس ، تعلو نواصيهم ملامح يومهم ، و يتناثرون كالبذور . يغتسلُ الماءُ بوجهها سبأُ ، تنظر المرآةُ في وجهها سبأ ، يفترشُ الغبشُ العذري ناصيتها سبأ. ترتدي زيّها المدرسي ، تستديرُ كدُمى صغيرة ، تمسكُ شظايا حُسنها المتطاير بجدران قميصها الضيقة ، تتقوس أهدابها كعلامة إستفهام حديثة الكتابة ، تتنافس خطواتها وتقرع ظلّ الأمس , تسرعُ للأريكة ذاتها ، تدسُّ أنفها بفضول مفرط العبور ، لم يكن حُلمآ ، تبتسم فيكوز قلبها الصغير شئ ما ، يستدير يختبئ في ثنايا ه بالكاد يُمسّ . تُهربُ في حقيبتها الثقيلة موسيقى صباحها ، تلقي التحية وترحلُ . تسير في زقاقهم الضيق ، تمنح الوقت أناشيد الضياء ، ترتطمُ بخُطى تُزاحم لونها ، يمينآ أم شمالآ ، شمالآ أم يمينآ ، يخذلها القرار يجلس على حافة الرصيف ليرى حيرتها تندلق أمامهُ ، يعلو وجهها صوت غريب : تفضلي يتسلقها خجلٌ كثير الأقدام ، طويل الأذرع ، تتخذ إتجاه اليمين فترتطم به مباشرة : يا إلهي ماذا فعلت ترفع رأسها قليلآ : آسفة تأخذ اتجاه اليسار كما تأخذ حلواها المفضلة بسرعة و تمضي ، تغيب في زحام يومها . أنا دائمآ أُربكُ الاتجاهات معي ، لماذا أُخفق في تخمينها سأحمل بوصلة في المرة القادمة ، تأرجح ُ ظنها قليلآ ، ما أنا والبوصلة ، الأماكن ذاتها ، الأزقة ذاتها , سيتكرر فيَّ الأمر ، تبتسم كما تبتسم شجرة للمسافرين ، تصلُ تُلقي التحية على زميلاتها ، تجلس ، تُنزلُ رأسها قليلآ لتُدفئ وجنتيها بإحتكاك الأزمنة ، فتُضرمُ نارآ لا ترى ، يُفزعُها اليقينُ ، الرائحةُ ذاتها ، الرائحة ذاتها ، إنه هو ، هو من كان على أريكتي . الغرباء هم أصحاب بوصلة لا تشير إلى الجنوب ، هم أقنعةُ الالم المؤجلة ، هم الرماد الذي لا يُخلفهُ الحطب .. … أسيل صلاح .