أوكرانيا تبحث مع الولايات المتحدة ضرب مناطق في العمق الروسي    مدرب يوفنتوس: لدينا حماس كبير قبل مواجهة شتوتجارت فى دوري أبطال أوروبا    استشارية صحة: النسخة الثانية من مؤتمر للسكان تمثل الإطلاق الحقيقي ل"بداية"    بنك مصر الأفضل في مجالي تمويل التجارة وإدارة النقد لعام 2024    وزير الخارجية يعقد لقاء افتراضياً مع أعضاء الجالية المصرية في الرياض    بالصور.. وزير البترول ونظيره القبرصي يتفقدان مواقع انتاج الغاز الطبيعي بادكو    ماكرون لنتنياهو: مقتل السنوار يفتح الطريق أمام محادثات جديدة لوقف إطلاق النار في غزة    وزير الطاقة الإسرائيلي: اتخذنا القرار بضرب إيران وكل الخيارات مطروحة    المصري يخوض مبارياته على ستاد السويس الجديد    الفيوم: تأجيل محاكمة المتهمين بخطف مواطن وإجباره على توقيع إيصالات ب3 ملايين جنيه لجلسة الغد    حصتهما الأولى في الجنة.. أول صور للطفلين مصطفى وحنين ضحايا حادث قطار العياط    وزير الإسكان يعقد اجتماعًا موسعًا لمتابعة موقف تنفيذ "حديقة تلال الفسطاط" بقلب القاهرة التاريخية    محافظ أسوان يستقبل ضيوف مهرجان تعامد الشمس بمطار أبو سمبل الدولي    فصائل فلسطينية تعلن مقتل محتجزة إسرائيلية في شمال قطاع غزة    بالصور.. انطلاق تصوير فيلم "درويش" الذي يجمع للمرة الثانية عمرو يوسف ودينا الشربيني    حزب الله استطاع تعطيل 25 مدرعة إسرائيلية    ضمن «بداية».. تنظيم بطولة كاراتيه للمرحلتين الإعدادية والثانوية بالمنوفية    تقارير: زيدان مرشح لخلافة مانشيني في تدريب المنتخب السعودي    ضمن «بداية»| محافظ المنيا: ندوات بالمدارس لتعزيز الثقافة الأثرية والسياحية    جامعة بنها تتقدم 105 مراكز بمؤشر التأثير العلمي بتصنيف ليدن الهولندي    منها «قاسم والمكنسة».. أشهر نوات تضرب الإسكندرية فى 2024    3%علاوات و45 يوما إجازات....مزايا ومكتسبات في قانون العمل الجديد    إصدار مشروع إنشاء مدرسة الرعاية المجتمعية المتخصصة بقنا    شريف الصياد رئيساً ل«التصديري للصناعات الهندسية»    اليابان والاتحاد الأوروبي يبحثان تعزيز التعاون الأمني وتطورات الأوضاع في أوكرانيا    محاضرة لمحافظ شمال سيناء للمشاركين في برنامج أهل مصر    تقديم خدمات علاجية ل17 ألف شخص على نفقة الدولة في المنيا خلال سبتمبر    تعديلات في قانون التأمين الصحي الشامل لضم المستشفيات النفسية والحميات    ماس كهربائي.. تفاصيل نشوب حريق منزل في العياط    موعد مباراة الأهلي والزمالك في نهائي كأس السوبر المصري    البورصة والدعاية ومكافحة الحرائق.. أنسب 10 مهن ل برج الحمل    محمود أبو الدهب: شوبير يستحق المشاركة أساسيًا مع الأهلي    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم أتوبيس وسيارة على كورنيش الإسكندرية    محافظ شمال سيناء يلقي محاضرة للمشاركين في برنامج «أهل مصر»    الأزهري يعزز التعاون الديني بين مصر وإندونيسيا بزيارة جمعيتي نهضة العلماء والمحمدية    غدا.. آخر موعد للتقديم في مسابقة الأزهر السنوية للقرآن الكريم    هيئة الاستثمار تبحث مع وفد اقتصادي من هونج كونج فرص الاستثمار بمصر    سيطرة مصرية على المشاركة في تحدي القراءة العربي.. وجوائز العام 11 مليون درهم    رئيس الوزراء يتابع انتظام الدراسة بمدرسة "الندى للتعليم الأساسي"    12 نافلة في اليوم والليلة ترزقك محبة الله .. 4 حان وقتها الآن    الحكومة تكشف حقيقة خفض "كوتة" استيراد السيارات بنسبة 20%    النواب يناقش إقتراح أبو العلا بإضافة بند 10 إلى اختصاصات الوطني للتعليم والبحث العلمي    شاهد.. حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الأقصر (صور)    الصحة: 50% من الأفراد يستفيدون من المحتوى الصحي عبر الدراما    وزيرة التضامن الاجتماعي تبحث مع سفير قطر بالقاهرة تعزيز سبل التعاون    محفوظ مرزوق: عيد القوات البحرية المصرية يوافق ذكرى إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»    كيف أقصر الصلاة عند السفر.. اعرف الضوابط والشروط الشرعية    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء عامل حياته شنقا من مسكنه في المنيرة الغربية    أهلي جدة في مهمة صعبة أمام الريان بدوري أبطال آسيا    ناقد رياضي: على «كهربا» البحث عن ناد آخر غير الأهلي    الأمريكي صاحب فيديو كلب الهرم: تجربة الطائرة الشراعية في مصر مبهرة    أهداف المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية.. خبير يوضح    الحوار الوطنى يكشف التأثير الإيجابى للدعم النقدى على القدرة الشرائية للأفراد    المرور تحرر 29 ألف مخالفة متنوعة خلال 24 ساعة    إطلاق رشقة صواريخ من لبنان    علي جمعة يكشف حياة الرسول في البرزخ    حسام البدري: الزمالك عانى أمام بيراميدز.. ومصطفى شلبي لم يقدم أي إضافة للأبيض    هل كثرة اللقم تدفع النقم؟.. واعظة الأوقاف توضح 9 حقائق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلم واليقظة
نشر في صباح الخير يوم 04 - 04 - 2017

اقترح عليه صديقه المتحضر أن يقيم فى بيته وألح عليه فى ذلك لأنه يعيش جل وقته فى القاهرة، فهو يعرف حياتها وأساليبها ويستطيع أن يكون لصديقه الريفى دليلا أمينا وزميلا وفيا، ولكن الآخر اعتذر وشكر وقال بلهجة صريحة: «لا تلح يا صديقى، أنا ليس لى من حطام الدنيا سوى قلب ورأس ملىء بصور سعيدة حفرتها فيه «ألف ليلة وليلة» ولطالما حلمت بهؤلاء القوم وما أرغب فى شىء رغبتى فى أن أذهب توا إلى أحياء القاهرة التى عاش فيها أو فى شبيهها أبطال تلك الليالى.. فإلى القاهرة القديمة.. إلى الخيال الساحر».
وطاف به صديقه متأففا فى تلك الأحياء التى درجت أيام مجدها وشبابها وأضحت من الآثار، توقظه خرائبها الدارسة أخيلة ساحرة وعواطف متدافعة، واندمج فيها بروحه اندماجا، ولما شاهد رجالها بالعمائم ونساءها بالملاءات والبراقع، ومساجدها تنطق منها المآذن ومقاهيها بأنوارها الباهتة وأرائكها الخشبية، استخفه الفرح والسرور، وقال فى نفسه: هاهى ذى بلد الليالى الجميلة التى تحدثت عنها «ألف ليلة وليلة» وهاهم أولاء أصحابها السادة الكرام ولابد أنهم يعيشون حياة كأسلافهم.. كلها حب ومتعة لا يحلمون إلا بأحلام الهوى ولا يقلقهم إلا خاطر الفراق وكيد العاذلين، وكأنهم بمنأى عن العالم وهمومه وكأن الدهر عاهدهم فلا يصيبهم إلا بما شاءوا.
وكان يتمشى فى شارع الغورية عندما لمح سيدة على بعد.. وكانت ذات قوام طويل وجسم سمين، ملفوفة فى ملاءة من الحرير على صورة أبرزت جمال قدها وثقل أردافها، وتنقبت ببرقع أسود فاحم أخفى وجهها إلا عينين كعين البقر يحيط بها الأثمد إحاطة الهالة بالقمر، هتف قائلا: يا لها من امرأة ألف ليلة وأسرع خلفها، وعرجت إلى معطف فعرج شغفا أن يتمعن وجهها فمال بوجهه نحوها وحملق فيها ولدهشته كانت سيدة فى الأربعين، وقد لاحظت اهتمامه بها فارتسمت على وجهها ابتسامة عجب وصاحت به: ماذا ترغب يا بنى من سيدة كأمك؟
- «معذرة يا سيدتى إن كنت قد خالفت أساليب اللياقة وما أنا إلا غريب تركت الريف منذ حين قليل وما أكاد أعرف شيئا عن بلادكم».
- «أحقا ما تقول؟ أم أنك تلجأ إلى ألاعيب من القول لتستدرجنى إلى الحديث»؟
- «وحق سيدنا الحسين الذى نحن فى رحابه أنى أقول صدقا وما قصدت مكرا، وهأنذا أبحث عن مسكن لى فى هذا الحى الذى أحبه».
وبدت على المرأة آيات الاهتمام وقالت له بسرعة: «اتبعنى إلى حانوت هذا العطار حتى لا يشك أحد من الناس فى حديثنا وإنى امرأة شريفة معروفة فى الحى وجدير بمن كانت هذا شأنها أن تغير على كرامتها أن يمسها سوء» ولما استقر بها المقام فى داخل الحانوت سألت الفتى باهتمام:
- «ما اسمك يا بنى؟ وهل أنت وحيد أم تبحث عن مسكن لأسرتك»؟
«اسمى عبدالله سلامة.. وأنا وحيد فارقت أهلى فى الريف لألتحق بمدرسة المعلمين العليا.. وقد نزلت عند صديق لى يقيم بشبرا، ولكن شغفى بالأحياء البلدية يغرينى بالإقامة فيها».
- «أنا ضالتك يا فتى.. فى بيتى غرفة خالية كان يسكنها إلى زمن قريب تلميذان بمدرسة خليل أغا وقد نالا الشهادة وتركانى إلى حيث يعلم الله، وقبلهما كانت تقيم بها فتاة فقيرة الحال فتزوجت ورحلت مع زوجها.. ألا ترى أن من يدخل بيتى يبتسم له الحظ السعيد؟ فأبشر خيرا وتوكل على الله.. والآن ما رأيك»؟
- «الرأى رأيك.. هيا بنا إلى البيت لأستطلع حاله».
وفى أثناء سيرهما حدثته «نعم أنت الفتى.. لعمرى قل من يعرف لأحيائنا قدرا وهأنذا امرأة قصاب ذى ثروة ولو شئت أن أسكن فى الحلمية الجديدة لكان لى ما أشاء، ولكن كيف يُهجر هذا الحى الجميل؟ إن من يعيش فيه لا يحس بحاجة إلى شىء فإن أردت صلاة أو تبركا فدونك وضريح سيدنا الحسين حيث تنفتح أبواب السماء لاستغاثات البشر، وإن أردت سحرا فها أولاء المقاهى البلدى تصغى فيها إلى الشاعر وربابته الشجية وإن نشدت لهوا فعندك رفاق لا تعرف السآمة سبيلا إلى نفس من يعاشرهم».
ومازالت تحببه ومازال يصغى إليها فى شغف سعيد حتى انتهت به إلى مدخل بيت قديم ذى باب ضخم كأبواب القلاع وفناء متسع أرضه تراب كواته ضيقة صغيرة وسلمه من غير درابزين، وقد صعد خلفها طابقا ولم يبق إلا السطح، قالت له:
- «ستأنس إلى جميع سكان البيت، أما الطابق الأول فتسكنه امرأة عجوز وابنها وهو مكارى، وأما الطابق الثانى فأسكنه أنا وزوجى..».
وقبل أن تتم حديثها ظهرت فى طريقهما فتاة ممتلئة، مرتدية فستانا أحمر فاقع الاحمرار وفى قدميها قبقاب وكانت وسيمة بينها وبين السيدة شبه، ولكنها تحمل آثار سحنة أخرى ليس فيها شىء من الجمال فكانت فى مجموعها أقل جمالا من أمها وكأنها فوجئت بالزائر الجديد فجفلت إلى الوراء وهى تهتف «يا ندامتى» وصاحت بها أمها «تعالى يا عائشة.. هذا ضيفنا الجديد» فأقبلت الفتاة فى خجل مرحبة، به وهى تحبك فستانها حتى لا يبدى شيئا لا يحل أن يبدو وكان صوتها جافا خشنا صورتها أرق منه بكثير، فحدث نفسه «ليس هذا بصوت واحدة من النسوة التى أحلم بهن.. ولكن فلنغض الطرف عن صوتها.. إن جسمها لبديع مكتنز تثير لواعج النفس.
ودخل إلى غرفته وكانت تشرف على منظر جذاب، فهاهنا أسطح البيوت القديمة ذات الأحبال منشور عليها الملابس المغسولة، وهنالك امرأة ترمى الحب للأفراخ وهذه تتدافع تحت قدميها المصبوغتين بالحناء، وبين هذه وتلك مآذن وأقبية يكتنف ذلك كله ضوضاء صاخبة وطريق متحرك بسابلة لا ينقطع تيارها.
وعاش حياته الجديدة متحمسا وتمتع خياله كثيرا، ولكنه أحس بخيبة لم يستطع أن يكذب نفسه فيها، فعائشة وإن كانت على جمال ووسامة إلا أنها لا تسمو إلى أسفل تلك الصور الفاتنة التى تعيش فى مخيلته، ثم هذا الصوت الخشن كيف يمكن أن يشدو متغنيا أو ينشد شعرا رقيقا، وما آلمه على وجه الخصوص أنه كان يشم كل صباح رائحة «الحنتيت» و«أبوكبير» اللتين كانت تستعملهما السيدة وابنتها لكى تزيدا وزنهما وتكثرا من شحمهما، وعكر صفوه فى أحيان كثيرة أن المرأة كانت تشتبك مع زوجها - لأقل خلاف - فى عراك خطير يسلان فيها لسانين قذرين ينفثان أسفل ما يتصور خيال من السباب المقذع، وقد حياه هذا الرجل ورحب به ولما علمت السيدة بذلك قالت له: «يا سلامة أفندى.. أنا هنا صاحبة البيت وأنا التى آخذ أجر الغرفة فى نهاية كل شهر وليس هذا الرجل».
وكان الأمر يسير حسنا بينه وبين عائشة، وقد كان هو فتى خالى القلب لسذاجة أهل الريف، فأثار وجوده فى نفس الفتاة عواطف جمة، لأنه لم يكن أمرا هينا أن يوجد معها فى بيت واحد «أفندى» لا تفوت عليه أربعة أعوام حتى يضحى مدرسا ذا مقام واعتبار، ولم تغمض الأم عينيها عن شىء من ذلك وكانت داهية ماكرة فأخذت تمهد السبيل بأناة وحكمة وأول ما صنعته أنها توددت إلى الفتى وربت فى قلبه الألفة لهم، حتى غدا وكأنه منهم وكانت تخلى له الجو مع ابنتها بعد أن تزودها بالنصائح والتحذيرات قالت لها:
- «..لابد أن يكون لنا» فما نستطيع أن نجد لك ندا له، ولكن لا تكونى حمقاء ولا نزقة فتفقدينه وأفقده، هبى أنى تركت لكما البيت فماذا يكون من أمرك معه هل تبدين إليه وتلقين بنفسك بين ذراعيه؟ أم هل تسيرين أمامه جيئة وذهوبا كأنك تنادين بغير لسان؟ كلا.. حسبك أن تودعينى وأنا خارجة بصوت تحرصين على أن يصل إلى مسمعه، ثم تعودين إلى غرفتك وتجلسين جلسة الفتيات المهذبات إلى منوالهن أو المتعلمات إلى كتبهن من غير أن تسكى الباب لتعطى له فرصة يراك فيها ويتحرق عليك.
- هبى الآن أنه تأثر وناداك فماذا تصنعين؟
- «طبيعى ألا أذهب إليه».
«حمارة كأبيك.. إذا ناداك - ولن يناديك أولا لأمر غير الهوى - فلتذهبى إليه بكل بساطة كأنك لا تظنين شيئا عما يقوم بنفسه.. أما إذا امتنعت أيتها الحمقاء فإنك تعترفين له بأنك تعلمين بنواياه وهذه خطوة يعدها كسبا له من غير شك، وإذا أحسست أنه يراقبك - وأنت فى غرفتك مثلا - ظانا أنك لا تدرين به فاقعدى قعدة تبرزين فيها خير ما فى قوامك من اعتدال وفتون واكسى وجهك صورة سذاجة وطهارة، وتقلبى على كل الأوضاع التى تزيدك جمالا فتزيدينه شغفا ولا بأس أن تستلقى فى رخاوة أو أن تكشفى عن ساقك بعض الشىء على ألا يزيد ذلك عن ثوان فإذا وقع بصرك عليك قومى واقفة وليبدو على وجهك الحياء والخجل وانكمشى فى رشاقة الراقصة وفرى فى خفة الغزلان..».
- «ولكن إذا.. مثلا.. أعنى..».
- «إذا تجرأ عليك فتوصى بالحكمة ولا تستسلمى له فتهونين فى عينه وسرعان ما يزهد فيك ولا تتمنعى عليه كل التمنع فييأس منك.. العبى بعقله واحرصى على جواهرك لا تمتد إليها يداه ودعى لى الباقى..»
ولكن الفتاة لم تكن داهية كأمها وكان صوتها الخشن ورائحة العقاقير التى تتعاطاها ينفر قلب الفتى منها، حتى إنه لم يخطر فى باله أن تكون له زوجة على طراز عائشة، ولكن هذا لم يقض على الجاذبية الطبيعية بينه وبينها وتمنى لو يتمتع بها على أن يقصر علاقته معها على المداعبات البريئة أو المداعبات التى على حافة البراءة وتتاخم الخبث والشر. ولم تترك الأم فرصة تفلت من بين يديها فسألته مرة:
- «إيه يا سلامة أفندى.. هل أنت مرتاح البال»؟
- «إنى مرتاح كل الراحة إلى المكان الذى أعيش فيه» فأمسكته من أذنه وهى تبتسم كأنها تؤنبه وصاحت به «يا لك من ماكر.. ألا ترتاح لشىء غير المكان؟ وأهل المكان يحبونك»؟
- «معذرة يا سيدتى.. إن أهل المكان فوق كل شىء».
- «وددت يا سلامة أفندى لو لم تفارقنا أبدا، إن بيتى فأل حسن لمن يسكنه ولكن الذين يسعدون فيه سرعان ما يتركونه إذا ما حقق الله لهم أمانيهم فهل تكون من هؤلاء يا ترى»؟
وكان يقدر فى نفسه ما يمكن أن تؤدى إليه مثل هذه المحاورة فقطع الحديث معتذرا وانصرف لبعض شئونه، وحدث بعد ذلك ما جعل الفتى يفكر جديا فى تغيير حاله مهما كلفه ذلك.
كان قد تقضى حين من الليل طويل وكان سلامة جالسا إلى مكتبه يذاكر بعض دروسه، وفجأة وصل إلى أذنيه وقع عصا غليظ على السلم وصوت يضج بما لا يفهم منه معنى، ثم فتح باب غرفته ودخل عليه رب البيت فى حالة سكر شديد، كانت عيناه محمرتين وشعره مغبرا ورائحته كريهة، ولما رأى الفتى انقض عليه وأخذه بين أحضانه وانهال عليه بالقبلات ولم يتخلص منه إلا بعد تعب شديد، وجلس الرجل على حافة السرير وصاح بالطالب: «أغلق هذه الكتب وارحم نفسك من السهر فما فى ذلك من فائدة ترجى، فيم تكدون وتتعبون أيها الطلبة؟ إنكم لرداء لا يطوى شيئا، كل ما فى الأمر ذهب الأفندى إلى المدرسة، نال الأفندى الشهادة العليا.. ثم يتشرد الأفندى ويعيش عالة كالمرأة سواء بسواء.. إن أتفه صبى تحت يدى أرفع منكم شأنا ونفعا».
وكان الفتى مشمئزا فهاج لثرثرة الرجل وانطلق إلى خارج الغرفة وصرخ بأعلى صوته مناديا ربة الدار، ولم يكف حتى هرولت إليه المرأة وهى تعصر عينيها من كابوس نوم عميق، ولما علمت بما هنالك أمسكت بتلابيب زوجها وجرته إلى الخارج، وقد اغتاظ هذا من سلامة أفندى وسبه سبا مقذعا حتى صاح الفتى غاضبا «هذه معيشة لا تحتمل»، مما جعل المرأة تفزع وتنهال على زوجها بكفها وهى تسوقه أمامها. وفى مرة أخرى وكانت الأم وابنتها فى خارج البيت صعدت إليه المرأة العجوز التى تقيم فى الطابق الأسفل وكانت امرأة طيبة ذات قلب رحيم، حيته وطلبت له النجاح والفلاح من الله ثم سألته:
- «ألم تفقد منديلا يا بنى! فتفقَّد سلامة مناديله ووجد أن واحدا منها مفقود، فقال:
- «نعم أمى.. ولو أنى لم أنتبه إلى ذلك إلا الآن».
- «هذا يقينى.. والأجدر بك يا بنى أن تترك هذا البيت وتقصد وجه الكريم»..
- «ولكن ما العلاقة بين وجودى هنا وضياع منديلى.. هل تعنين؟
- «كلا ليست صاحبة الدار بسارقة والحمد لله.. ولكنها تطمع فى متاع أثمن من جميع الأمتعة التى يتهافت عليها السارقون.. هى تطمع فى قلبك وتسعى إلى أن تسرقه بطريق السحر والشياطين» وتعجب الفتى واستشعر الخوف وسألها:
- «وكيف ذلك يا أماه»؟
لقد اختلست منديلا وسلمته إلى ساحر شرير يدعى الوحى والقربى من أهل البيت، ومن منديلك يعرف مكنون قلبك ومن ثم يكتب لك سرا يعلمه فتصير فى طوع يديها وتخضع لأغراضها، وهى تتمنى أن تزوجك من ابنتها بذيئة اللسان قبيحة الصوت.. فانج بنفسك وشبابك وادع لى.
ومن تلك الساعة باتت تؤرقه المخاوف والأوهام وعزم عزمة مؤمن أن يغادر الدار، وتجافى أهل الدار وتحاشاهم وأبدى نيته فى مغادرة البيت فى نهاية الشهر، وعبثا حاولت الأم أن تثنيه عن عزمه حتى تولد بينه وبينها جو مسموم من الجفاء والتحرش، وعمل على ألا ينتظر حتى نهاية الشهر فجمع حقائبه - وكانت الأم خارج الدار - وخرج ينادى حوذيا وأثناء نزوله تنبهت له عائشة وكانت فى السطح تشاهد حزمه للأمتعة من ثقب الباب - فاعترضت طريقه وسألته:
- «إلى أين يا سلامة أفندى»؟!
- «أحضر حوذيا».
- «ولكن والدتى متغيبة عن البيت.. تمهل قليلا».
- «هذا لا يؤخر ولا يقدم».
- «تمهل قليلا».
- «كلا.. لابد من خروجى».
- «لا خروج إلا بعد رجوع والدتى».
- «بل الآن.. الآن».
- «ولكنك لم تدفع أجر الغرفة».
- «ما هذا الذى تقولين؟ لقد دفعت الأجرة فى حينها وحدث ذلك أمامك».
- «هذا كذب».
- «أنت الكاذبة».
- «بل أنت كاذب تلفق.. ابن كاذبة ملفقة».
- «اصنعى ما تشائين إنى خارج».
وحاول الخروج وسدت عليه الطريق وسبته وشتمته فثار غضبه وأراد أن ينحيها عن طريقه فدفعها بيده وهنا صرخت بأعلى صوتها وهى تمسك برباط رقبته:
- «أغيثونى يا جيران.. الحقونى يا مسلمون.. فتاة وحيدة يعتدى عليها شاب أثيم».
وأجهشت فى بكاء مصطنع فى حين وقف الفتى مذهولا تعلو وجهه صفرة الموتى، ولكن الله أراد له النجاة إذ ظهرت فى ذلك الوقت المرأة العجوز التى أطلعته على سر صاحبة البيت وكانت مختبئة خلف باب السطح وقالت للفتاة مهددة: لا تصرخى يا عائشة.. عيب والله أن تفعلى هذا. إن الشاب لم يمسّك بسوء وإنى شاهدة على ذلك.
وكانت هزيمة منكرة فتنفس الفتى الصعداء وأراد أن تخلص رقبته منها، وكانت هى خائفة مغتاظة، فضربت رأسها فى رأسه بشدة جعلت الدنيا تظلم فى عينيه وتركته يهبط السلم وهو لا يدرى أيسير على قدميه أم على رأسه، وكانت ضربة قاسية أنزلته إلى الأرض من سماء الخيال. •


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.