يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الزهد كله بين كلمتين من القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى" لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.) وقال رضي الله عنه في صفة الدنيا: (تغر وتضر وتمر. إن الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه، وإن أهل الدنيا كركب بينا هم حلوا إذ صاح سائقهم فارتحلوا.) وقوله: (من أصبح على الدنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً.) التكنولوجيا منحتنا فرصة ذهبية بأن نرى بأم أعييننا مصارع من مضى من البشر، نقرأ القصص القديمة التي علمتنا ما حدث للمتجبرين والخونة والظالمين، ولكننا لم نرى من خلال أفلام وثائقية نهايتهم الواقعية، فما نقرأه يختلف تأثيره عما نراه بأم أعيننا. رؤساء وملوك، أغنياء ومتجبرين، مشهورين وعباقرة كانوا حديث أهل الأرض ومحط أنظارهم بعلمهم وأموالهم وسلطتهم، ثم ماذا؟ اندثر الذكر وبلى الجسد، وظهر قبيح ما كان يفعلونه وزال جميل ما كان يدعونه. نرى من حولنا تقلبات الدهر التي تمر على كل انسان منا حتى على ذواتنا، ففي يوم هناك العافية وبيوم آخر يأتي السقم، في سنة يأتي الرخاء وفي سنة أخرى القحط، في زمن ما نحب شخص ما أكثر من ذواتنا ثم يصبح عدو لنا، أقرب الناس لنا قد يتحول لغريب عنا لا نطيق حتى النظر إليه، وإن أحببناه فلابد وأن نفارقه لسفر أو مرض أو موت. ألا نرى التغيير الدائم بكل أحوالنا وأحوال من حولنا! ألا تأخذنا الأفكار لأعمق من رغباتنا! ألا نرى أننا حتى حين نحقق تلك الرغبات تبقى هناك فجوة ما فارغة لا يملؤوها إلا القناعة والزهد، ربما ليس كل الزهد، بل بعضه يكفي كي تكون الحياة أجمل. لماذا الحديث عن الزهد؟ هذا الموضوع القديم والذي أصبح لا قيمة له أمام الكم الهائل من المغريات ومن البضائع ومن المشتريات، أمام الكم الهائل من الخيانة ومن التخلي تدريجياً أو بشكل متسارع عن العقيدة وعن ثوابت الدين، أمام الكم الهائل من الإعلام الذي يُعلي من قيمة التعري والاستهتار بالأخلاق. لم يعد الزهد موضوع نقرأ عنه في الكتب ويبدو كأنه بعيد ولا يمكن تطبيقه، نحن الآن بأشد الحاجة لهذا الزهد النبيل القديم، بأشد الحاجة لاستعاده الأنفاس اللاهثة وراء حياة مهما أعطت فسوف تأخذ منا أضعاف ما أعطت؛ بأشد الحاجة إلى واحة بعيدة نائية عن المغريات وعن الخيانة وعن تحقير كل قيم الوفاء والإخلاص والانتماء. إن كان الجيل القديم من الصالحين قد جعلوا من الزهد قربى لله تعالى، فنحن بهذا الجيل الحديث لابد أن نجعل من الزهد مركب نجاه في بحر تموج به أمواج الفتن والمغريات وإضعاف الدين والانتماء والتطاول على ثوابت الأخلاق بل والترويج لكل ما ينتهك الأخلاق. لم يعد الزهد رداء يرتديه الصالحون بل حماية ووقاية لمن يريد أن يحيا حياة طاهرة ولمن يريد يحمي نفسه من هذا المد الهائل من الفتن وتشويش العقيدة وخلخلة القيم التي نشأت عليها حضارتنا والتي أُسس عليها تاريخنا. الزهد الحقيقي هو أن تتمكن ودون صراع مع النفس أو مع الآخر أن تنسحب بهدوء من معركة ليست هدفك في الحياة، أن تنسحب دون أن تلتفت إلى الوراء لتبقى دائماً في جنة الله على الأرض، أن تبقى مقيماً في بيت إيمانك لا تغادره لأجل ما يُضعف هذا الإيمان، وأن تُبقي حقائبك جاهزة للسفر فما نحن سوى عابري سبيل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.) *من كتاب نهج البلاغة. شرح الشيخ محمد عبده – دار الجليل للنشر