الدكتور المؤمن عبد الله سافر لليابان عام 1996 ب800 دولار وتذكرة ذهاب بلا عودة .. ثم أصبح أستاذا جامعياً مشهوراً بأكبر جامعات طوكيو عشت سنوات طويلة أعمل فى جامعات اليابان وتزوجت منها وأحزن لهمومها وأتفاعل مع قضاياها.. لكن الحقيقة الثابتة أننى لست واحدا من أهلها أول درس تعلمته هناك هو أن أعتمد على نفسى فقط ولذلك عملت على ماكينة غسل الصحون بأحد المطاعم نقل تجربة المدارس اليابانية إلى مصر قرار رائع ولكن المهم أسلوب التربية وليس التعليم فقط بدأ الدكتور المؤمن عبد لله رحلته إلى اليابان منذ 24 عاماً، لم يكن معه سوى 800 دولار وتذكرة طيران ذهاب فقط، كان هدفه هو الدراسة بإحدى جامعات اليابان وتكبد مشاق الحياة المادية والنفسية من البعد عن الأهل والأحباب وتدبير مصاريف الحياة والدراسة، وفي النهاية وصل للمرحلة التي عندما يستمع الناس إلى قصته ينبهرون بأحداثها التي مازالت مستمرة، تفاصيل أكثر نعرفها منه في الحوار التالي .. في البداية.. من أنت ؟ اسمى المؤمن محمد فخر الدين عبدالله من عائلة "أبو العمايم" فى الصعيد، عمرى 43 عاماً ووُلِدتُ فى القاهرة وقضيت في اليابان أكثر من 22 عامًا، أعمل الآن كأستاذ مساعد في جامعة "طوكاي" في مركز التعاون الدولي، وهذا المركز يضم أقساماً كثيرة وأنا حاليًا رئيس لقسم "التعليم الدولي" ولقد تخصصت في علم اللغة المقارن والذي يندرج تحته المقارنة بين اللغة اليابانية ولغات أخرى كثيرة، وكذلك تدريس علوم اللغة اليابانية والترجمة، وعملي يتعلق بالأبحاث المقارنة خاصة فيما يعرف ب"علم المعنى والتواصل" والترجمة. وما نوعية الدراسة فى مصر؟ وهل تعلمت اللغة اليابانية فى مصر أم فى اليابان ؟ كانت دراستي في مصر بكلية السياحة الفنادق، وقد التحقتُ بها عام 1991 وفي هذا التوقيت كان تدريس اللغة اليابانية في مصر فى مكانين فقط، هما: قسم اللغة اليابانية وآدابها بجامعة القاهرة والذي كان مقصورًا على طلاب الجامعة فقط، والمكان الثاني هو المركز الثقافي الياباني وكان الالتحاق بدورات المركز الثقافي يتم عن طريق امتحان قبول، وكان الالتحاق بدورات المركز صعبًا لأنها كانت دورات مخفَّضة، وقد قررت خوض امتحان القبول الخاص بالمركز الثقافي وكنت أذاكر بمفردي قبل الامتحان بدون مساعدة من أحد لمدة 3 أشهر وهو ما مكنني من الالتحاق بالمستوى الثاني مباشرة، ودرست اللغة اليابانية لمدة 3 سنوات تقريبًا قبل مجيئى إلى اليابان ثم سعيت للسفر من أجل إتاحة خيارات أفضل أمامي في دراسة اللغة وتحسين مستواي. وكيف بدأت تجربتك فى السفر الى اليابان؟ تركت كل شيء في مصر وجئت إلى اليابان لا أحمل في جيبي سوى 800 دولار وتذكرة ذهاب "بلا عودة" وقد كان هذا في عام 1996 ولقد كان هذا أمر غريب في هذا الفترة فلم يكن أمرًا معتادًا أن يسافر طالب جامعي مصري على حسابه الخاص إلى الخارج وخصوصًا إلى دولة بعيدة جغرافيًّا وثقافيًّا عن مصر كاليابان، وفى البداية كنت أبحث في الكتب عن أسماء المعاهد والجامعات اليابانية وكتبت قائمة بأسمائها وراسلتها للسؤال عن إمكانية الحصول على منحة للسفر والدراسة في اليابان ولكن للأسف لم تسفر جهودي تلك عن أيَّةِ نتائج مرضية، ومع ذلك لم أيأس وساقتني الأقدار للتعرف على أحد الأساتذة اليابانيين الذين سبق لهم التدريس في جامعة القاهرة، وعندما وصلت اليابان التحقت بالبكالوريوس مرة أخرى وليس الماجستير وقضيت عامًا كاملًا في دراسة اللغة اليابانية في المعهد الذي جئت للدراسة به، وكنت أقوم في الوقت نفسه بالكثير من الأعمال المؤقتة. عند قُدُومِكَ إلى اليابان لأول مرة هل كنت تنوي الاستقرار فى اليابان بشكلٍ دائمٍ أم أنَّ هدفك كان الحصول على قسط يرضيك من دراسة اللغة ثم العودة إلى مصر مرة أخرى؟ حقيقةً لقد جِئتُ في البداية إلى اليابان بغرض قضاء مدّة محدودة، ولكن بعد ذلك بدأت استوعب أن الدراسة ليست مقصورة على التميُّز في اللغة اليابانية فحسب، وإنَّما هناك جزء خاص بالتعايش والثقافة، والحقيقة أنَّ سبب شرائي لتذكرة ذهاب بلا عودة كان يعود لأنني لم يكن معي نقود كافية إلا لهذه التذكرة ولكنني عندما جئت إلى هنا تطورت الأمور معي سريعًا. وما الصعوبات التى واجهتك فى بداية وجودك فى اليابان ؟ الأزمة التي واجهتها كانت اقتصادية فلم يكن متاحاً لي التحرك بسهولة والخروج كثيرًا للاحتكاك، فقد كنت مضطرًا لأن يكون همي الدائم هو العمل حتى أتحصَّل على المال الكافي لدفع مصاريف الدراسة في المعهد، ولذا فالناحية المادية كانت أحد العوامل المسببة للقلق الدائم بالنسبة لي، ولكن على الجانب الآخر فقد كانت هناك حالة شغف وكنت سعيدًا في الواقع لأنني كنت أمُرُّ بالكثير من التجارب وأتعرَّفُ على اليابان، وكنت مقيمًا في غرفة بمنزل ياباني فكانت بالنسبة لي تجربة جيدة لأن أتعايش مع اليابانيين بشكل كامل وأن أرى الأسرة اليابانية عن قرب، ولكن وكما قلت لك من قبل ف"واقعية الشخصية اليابانية" هي الأخرى صدمتني كثيرًا، فمشكلتنا نحن العرب هي "الحكم السريع على الآخرين ووضعهم في قوالب معينة". هل تلقيت أى نوع من الدعم فى خلال الفترة الاولى لوجودك فى اليابان؟ لا لم أتلق الدعم، فقد كان أول درس تعلمته هنا هو أن "أعتمد على نفسي فقط" وأنَّه ليس هناك مجال للعاطفة هُنا حتى وإن ساءت أحوالك الاقتصادية فيجب عليك أن تعتمد على نفسك فقط لأنك أنت من قرر المجىء إلى هنا إذًا فلابد أن تعتمد على نفسك وأن تعتبر الحصول على المساعدة من الآخرين نوعا من أنواع الدعم الذي قد يحدث وقد لا يحدث، وكثير مِمَّن جاءوا إلى هنا من المصريين يشتكون جفاء اليابانيين في التعامل معهم وأنهم -أي اليابانيين- لا يقدمون لهم أيَّ مساعدة وهذا ربما يكون صحيحًا ولكنك تتعلم من هذا الاعتماد على النفس في إدارة كافة شئونك في الدراسة والعمل وحتى في الحصول على النفقات الخاصة بك للحياة، وأول عمل قمت به كان في فندق به مطعم فرنسي ومهمتي كانت العمل على ماكينة غسل الصحون وفي أثناء عملي كان يتوَجَّبُ عليَّ الوصول إلى العمل في الوقت المحدد ولا أحد هنا يتقبل منك الأعذار؛ ولذا فقد كان يجب عليَّ القيام بعملية "انتقال في الشخصية" والتحَوُّل لشخص يترك "فكرة الأعذار". أنت تعمل فى مجال التعليم الجامعى وتحديدًا رئيس لقسم التعليم الدولى، ما الفرق بين التعليم الجامعى بين مصر واليابان؟ معايير التعليم ليست صعبة، ولكن هناك أشياء ترتبط بسيكولوجية القائمين على العملية التعليمية نفسها، ومنها: عدم الاعتماد على الآخرين والتعوُّدَ على استقلالية الشخصية، فالطالب المصري عند التحاقه بجامعة أو كلية ما لا يزال واجبًا عليه أن يتشاور مع والديه؛ لذا لابد من الاستقلالية، أيضًا لابد من الخروج عن فكرة الطبقية فاليابان التي تحتفل هذا العام بمرور 150 عاماً على عصر نهضتها في عهد الإمبراطور "ميجي" استطاعت القضاء على الطبقية الاجتماعية منذ عصر النهضة وعملت على نشر الحريات ومن ضمنها حرية التعليم، وكان من الممكن أن يكون عمرك 25 عامًا فقط وتكون قائدًا أو مشرفًا على مشروع كبير، فكان المهم هو عنصر الكفاءة دون النظر إلى العوامل الأخرى. هل تستطيع مصر الاستفادة من التجربة اليابانية فى النهوض بالتعليم قبل الجامعى؟ إن المدارس اليابانية التي تسعى مصر لإنشائها في الفترة الحالية وتَهدُفُ من خلالها لنشر منظومة ال "توكاتسو" أو "الأنشطة الخاصة"، هي أمر رائع في الحقيقة ولكن هذا يَندَرِجُ تحت مظلَّةُ التربية وليس التعليم والتربية هي أمرٌ لابد منه وأن يشترك المجتمع بأسره فيه، وتتوافد شخصيات من دول عربية مثل مصر والإمارات والسعودية من اجل التعرف على أسرار هذا النوع الفريد من أنواع التعليم فتجد المسئول يجول بالفصول وردهات المدارس من اجل الوصول إلى هذا السر ومحاولة التعرف عليه، وكلهم يتوقفون أمام مشهد لافت يرون فيه تلاميذ الفصل وهم يقومون بتنظيف الفصل بطريقة جماعية، ومشهد آخر يقوم فيه الطلاب بحمل الأطباق وإعداد الطاولات من اجل تناول وجبة الغداء المدرسية، كل هذا يتم دون أن يتدخل معلم أو معلمة الفصل، ولكل طالب هنا دور يتحدد من خلاله مسئوليته تجاه زملائه من الطلاب في هذا الفصل، لذا فهم يتقاسمون تلك الأدوار من اجل تحقيق مسئولية الفرد تجاه الجماعة. لكن المهم هنا هو المشاركة وبذل الجهد وليس تحقيق النتائج، ولا تتوقف العملية التعليمية فى اليابان فقط عند حدود الفصل، ولكن تمتد لتتواصل مع المنزل والآباء من اجل متابعة الأبناء وتحقيق الدور المشترك في تربية النشء علميا وتربوياً، فتجد مجلس الآباء ودوره في الإسهام في دعم الدور المدرسي والانشطة التعليمية ودور مجلس الحي والشركات والمحال المتواجدة في المنطقة… فالجميع يساهم ويعمل على رعاية وتربية النشء من اجل سلامة المجتمع كله . لو تحدثنا عن الأمور الشخصية، هل أنت متزوج من يابانية أم مصرية ؟ أسرتى تتكون من زوجتى اليابانية والتى ارتبطت بها منذ 15 عاماً وابنتى عمرها 12 سنة اسمها منى. ماذا تعنى تجربة العيش فى بلاد المهجر لأكثر من 23 عاما متواصلة ؟ فترة طويلة تستيقظ وتعيش على لغة غير لغتك، تفكر في مشاكلها وتتفاعل مع مجتمعها وتدرس في جامعاتها وتتنزه في حدائقها وتستمتع بنسيم هوائها وتضحك على فقرات برامج تلفازها وتحزن لهمومها ومشاكلها وتتفاعل مع قضاياها وتفعل كل ما يجعلك تعتقد انك واحد من أهلها لكنك بين لحظة وأخرى تجد أمامك الواقع الذي يذكرك دائما بحقيقة ثابتة- دون محال- بأنك لست واحدا من أهل هذا البلد وهم أيضا لم ولن يعتبروك واحدا منهم، أمواج الحياة تعلو بك وتخفض بين مشاهدها المتعددة والمتنوعة، تارة تجعلك تعتليها منتصرا وتارة ترميك غارقا منكسرا بين أمواجها، فتجد نفسك عالقا بين واقع العيش في المهجر وحلم العودة إلى أدراج الوطن الذي طالما كنت تسعى من اجل الوصول إلى شواطئه أملا في الراحة بين الأهل والأحبة، لكنك هنا تجد السؤال يكرر نفسه مجددا متى سيقف قطار الأماني؟ ! ما أوجه الاختلاف والتشابه بين الشباب المصرى واليابانى ؟ الشاب الياباني واقعي ويتجرد من الحكم بالعواطف ويحكم العقل والإرادة في التعامل مع الكثير من أمور الحياة…أما نحن فعاطفيون في التعامل مع أمور الحياة والمستقبل…ونعلق الكثير من الآمال على الآخرين، وعموماً الشاب في كل مكان يريد أن يحقق أحلامه في حياة سعيدة لها قيمة وهدف تخدم مصالحه الشخصية وايضا مصالح المجتمع الذي تربى فيه.