لم نكن قد اجتزنا بعد أية خطوات تذكر فى الحد من الانتشار المروع لظاهرة أولاد الشوارع، حتى فاجأتنا ظاهرة أخرى أكثر بشاعة ولا إنسانية تترتب على الظاهرة الأولى، هى مصير أطفال أولاد الشوارع أو الأبناء الذين ينجبهم هؤلاء الأولاد! فبحسب ما فجرته د. عزة كريم أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فى الورقة التى قدمتها للمجلس القومى لحقوق الإنسان الأسبوع الماضى، فإن فتاة الشارع 11 أو 21 سنة غالباً ماتكون قد تعرضت لحالة من حالات الحمل فور بلوغها نتيجة تناوب الاعتداء الجنسى عليها من قبل البلطجية المحيطين بها! ويصبح مصير هذا الطفل هو البيع جملة أو قطاعى أو الموت أو حتى الاختطاف فى الأيام الأولى من مولده! ما أثارته كريم أثار الكثير من الجدل، حول الظاهرة الجديدة والغريبة، والتى تتمركز - بحسب ورقتها - فى: القاهرة وبورسعيد، والسويس، والاسكندرية، ثم الشرقية، والغربية، وأخيرا بنى سويف، أما الريف فتكاد تختفى منه هذه الظاهرة. وإذا كانت الإحصاءات لم تستطع أن تحدد عدد أولاد الشوارع إلا أن كل المؤشرات من زيادة الفقر والتسرب من التعليم، واستحباب حياة الشارع تدل على أن المنبع مازال مفتوحا على الشارع والأعداد فى زيادة والمواليد الجدد لا يمكن تحديد عددهم إلا أنه لا تطلع شمس يوم - كما تقول د. عزة -إلا ويوجد طفل أو أكثر يتم بيعه سواء بألف جنيه أو ألفين والسوق مفتوحة وآمنة نظراً لفقدان هؤلاء المواليد للهوية من حيث الأصل! انتشار بيع هؤلاء المواليد جاء نتيجة لممارسة فتيات الشوارع للجنس بصورة يومية وعشوائية، سواء باختيارهن أو بالإكراه.. فيأتى المولود مجهول الأب، وهم يطلقون عليه ابن الشعب لعدم القدرة على تحديد الأب! فالفتاة فى الشارع تتعرض لكل المخاطر التى يتسبب عنها حمل غير مرغوب فيه، إلا أن حياتها ارتبطت ارتباطا وثيقا بالعلاقات غير المشروعة التى أصبحت سمة من سمات حياتها اليومية وآلية من آليات تكيفها مع حياة الشارع، ووسيلة لإخضاعها لسيطرة العصابات والمستغلين لها. وتقول د. عزة كريم: إن فتيات الشوارع يعانين من مشكلتين أساسيتين هما الاتجار فيهن، وفقدان الهوية.. فطفلة الشارع منذ وصولها إليه تجد من يساومها على الجنس بداية من أولاد الشوارع أنفسهم أو الوسطاء أو العصابات الموجودة فى الشارع.. لأن أولاد الشوارع بصفة عامة يفتقدون الحماية.. فالدولة تحاول أن تقاومهم لذلك لا يذهب أحد منهم إلى قسم الشرطة ليبلغ عن أى شىء يتعرض له.. ولا تجد الفتاة التى تعيش فى الشارع فى المقابل من يحميها سوى البلطجى الذى يوفر لها مكاناً للنوم نظير استغلالها جنسيا.. وهذا السلوك أصبح طبيعيا فى هذه الفترة لعدم وجود ضوابط أخلاقية لديهم تقول لهم هذا حلال وهذا حرام إلى آخره! ولا تتوقف المشكلة عن حد مجهولية الأب، ولكنها تتجاوزها إلى أن هذا المولود لا يمكن استخراج شهادة ميلاد له، وسط هذه الظروف.. وإذا تمت الولادة فى أحد المستشفيات تهرب الأم برضيعها من المستشفى بعد الولادة مباشرة حتى لا يتم عمل محضر زنى لها لعدم معرفة الأب! ويصبح المولود بلا هوية.. وهؤلاء المواليد كثيرون كما يقول أولاد الشوارع نفسهم نحن ننجب كثيرا! وبوصول هذا المولود لا تجد الأم أمامها إلا عدة اختيارات.. الأول أن تأخذ المولود ليعيش وينام معها فى الشارع فيموت فى الاسابيع الأولى.. أو يتم خطفه وسرقته من جوارها إذا هى غفلت عنه ونامت قليلاً! وتقول إحدى الفتيات لقد سرق ابنى الثالث من جانبى وأنا نائمة.. أما الاختيار الأخير فهو القيام ببيع هؤلاء المواليد ومبرراتهن للبيع هى أنه لو ظل معها إما سيعيش عيشة أولاد الشوارع أو يموت أو يتم خطفه إلا أن البيع يضمن على الأقل وجود أسرة تحتاجه وتريد تربيته وتستخرج له شهادة ميلاد، وبذلك أضمن أن يعيش حياة معقولة! وعن عاطفة الأمومة تقول د. عزة : لقد قتلت عندهم هذه العاطفة لأنهم يتناسلون مثل الحيوانات.. ولا يعيشون مع أطفالهم فترات تسمح بنمو الحب بينهم.. والمشكلة الأكبر التى يجب أن ننتبه إليها أننا كنا نعتقد أن هناك أشخاصاً محددين يقومون بشراء هؤلاء الأطفال لكننا وجدنا أن الفتاة التى لم تلد بعد تجد من يعرض عليها أثناء سيرها فى الطريق إمكانية بيع طفلها القادم وأنه سيتم رعايتها طبياً حتى تلد ثم يحصلون على الطفل بمجرد ولادته. وأحيانا أخرى يتم بيع الطفل بعد ولادته بفترة قد تصل إلى عام أو أكثر .قالت إحدى الفتيات أنه أثناء سيرها فى الشارع مع ابنها البالغ من العمر عاما ونصف العام وجدت من يقول لها ممكن أشترى ابنك.. كما لو كان يشترى أى شىء من السوق.. وهى لا تعرف هذا الشخص ولا يوجد أى وسيط فى عملية البيع ويتم الشراء اليوم بالعلاقة المباشرة! والسؤال الذى يطرح نفسه لماذا وصل الأمر إلى البيع بالعلاقة المباشرة؟ وبحسب كريم فإن السبب يرجع لوجود كثير من الناس الذين يريدون الحصول على أطفال إما للتبنى لأنهم محرومون من الأطفال أو للمتاجرة بهم وبيعهم لآخرين.. أو لأخذ أعضائهم.. ومما يسهل هذا الأمر عدم وجود أسرة للطفل ولا حام له ولا شهادة ميلاد تحمل اسمه.. حتى إذا كانت نية من يشترى هذا الطفل سليمة ويريد تربيته فهو يقوم باستخراج شهادة ميلاد تنسبه له رغم منع التبنى.. ولا يوجد من يحاسبهم على ذلك لأن الطفل منعدم الهوية نهائيا.. ولا يوجد حتى مايثبت أنه مصرى.. ليس هذا فقط بل إن الأم هى الأخرى ليست لديها أية أوراق فهى حين تركت أسرتها وذهبت إلى الشارع لم تكن معها أية أوراق تثبت شخصيتها، وبذلك يتم حرمان هذه الأم ووليدها من التعليم أو العلاج فى المستشفيات أو الذهاب إلى قسم الشرطة أو أى هيئة بالدولة.. والمشكلة أيضا أن هؤلاء الأولاد ومواليدهم فى زيادة، مطردة، وهم يبيعون أولادهم بسعر يتراوح مابين 1000 أو 2000 جنيه! وتطرح د. عزة مشكلة لا تقل خطورة عن بيع الأطفال، وهى المتاجرة بأعضائهم، حيث يقوم البلطجى الذى يحمى بنت الشارع، بدور الوسيط الذى يصطحب الطفل لمن يأخذ منه أحد أعضائه.. وكل ذلك بمعرفة الأم! وتشير الأرقام إلى أن سعر الكلية 10 آلاف جنيه وقرنية العين 15 ألف جنيه وفص الرئة ب 20 ألف جنيه، والغريب أن معظم هذه الأموال تكون مزورة كما يقول الأولاد! كما أن العملية الجراحية تتم بطريقة غير قانونية، وفى أماكن غير سليمة تتسبب فى وجود جروح سيئة جدا لدى الأطفال، فضلا عن أن الكثيرين منهم يموتون بعد هذه الجراحات! وتؤكد كريم أننا لا يجب أن نعتمد إطلاقا على أى إحصاءات خاصة بمشكلة أولاد الشوارع أو أولادهم، رغم ما أعلنته د.مشيرة خطاب من قبل حول أن عدد أولاد الشوارع 10 آلاف فقط! فربما كانت تقصد خطاب أن هذا عدد الموجودين فى الشارع الآن.. لكن الذين يموتون أو يتم بيعهم ليس لهم حصر أو عدد.. وإذا قلنا أن متوسط عددهم يصل إلى مليون طفل سنجد أن مواليدهم أرقام كبيرة جدا وهذا هو المتوقع! سألناها: هل من الممكن أن نرى اختفاء لهذه الظاهرة بعد بيع الجيل الثانى؟! فقالت: غير صحيح، لأن المنبع موجود.. فلايوجد تعليم جاد لهم.. وكلهم متسربون من التعليم، ويكرهونه.. ليس لأنهم لايريدون أن يتعلموا، ولكن لأن التعليم فاسد.. فالمناهج سيئة وأيضا المدارس والمدرسون! أى أنه أصبح طاردا للأولاد، كما أن الأسرة أصبحت هى الأخرى عنصراً طارداً فى ظل الفقر والتفكك، والمجتمعات العشوائية تخرج أولادها للشارع دائما.. وبالتالى لا نستطيع أن نقول أن عددهم أصبح أقل لأن الظروف تزداد سوءا! والغريب أن هؤلاء الفتيات والأولاد الذين يعيشون فى الشارع تأقلموا معه بشكل كبير، ويرفضون العودة لأسرهم أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية، لأنهم قادمون فى الأصل من مجتمعات عشوائية أو بيئة فقيرة تجعلهم لايشعرون بالغربة فى الشارع.. فهم يحصلون على فلوس من الشارع ينفقونها على مزاجهم، ويعيشون بلا رقيب فى حرية مطلقة. وللأسف - والقول للدكتورة عزة - وجدت كثيرين منهم يريدون الاستمرار فى الوجود فى الشارع.. وبالتالى لابد أن يتم العلاج على محورين غير تقليديين.. فيتم عمل حلقة نقاش بين العلميين وبعضهم البعض، ويتم الجلوس مع هؤلاء الأطفال أنفسهم أكثر من مرة.. فمشاكلهم تكاد تكون واحدة.. وهناك نوع من التماثل بين أفكارهم واحتياجاتهم.. وعلينا معرفة ماذا يريدون؟! ولماذا يهربون من المؤسسة؟! وما هى مشاكلهم الحقيقية؟! بدءا من بيع الأولاد ومرورا بعدم وجود حماية فعلية لهم من الدولة.. فالحل يتمثل فى إصدار قانون يتم توزيعه على أقسام الشرطة ينص على وجود لجنة تابعة للقسم أو لوزارة العدل تعطى للطفل الحق فى اللجوء إليها إذا واجهته مشكلة، وعلى اللجنة استيعابها وحلها.. وبدلا من أن يخاف هؤلاء الأولاد من الشرطة تصبح الشرطة ملجأ لهم، خاصة أن الشرطة تتمتع بالسلطة القانونية والفعلية للتحرك لحماية هؤلاء الأولاد! قلنا لها: ولكن ألا يعتبر مثل هذا القانون تقنينا لوجودهم فى الشارع؟! - فأجابت: بالعكس.. عندما يجد طفل أو طفلة الشارع من يهتم به سيبدأ فى الاستماع إليه واللجوء له عند الحاجة خاصة إذا كانت الدولة هى هذه الجهة وأن توضع خطة لاستيعابهم فى تعليم غير تقليدى فنى أو صناعى أو تجارى.. لأن لديهم ميلا للنواحى الفنية.. مع الأخذ فى الاعتبار تقديم حافز مادى لهؤلاء الأولاد بدلا من حافز الشارع، وهو ما سوف يدفعهم للإبلاغ عن أى محاولة لبيع أبنائهم أو بيع أعضائهم! وعلى الدولة أن تدخل فى هذه الجزئية، وتكون هى من تحصل على هذا المولود بإرادة الفتاة وتوفير مكان تقضى فيه هذه الفتاة الليل.. لأن المؤسسات لايوجد فيها نوم أو مبيت ومشكلة فتاة الشارع هى فترة الليل، حيث يتم استغلالها فيه. ويتم تصنيف المؤسسات إما للمبيت أو لرعاية الصغار بعد استخراج أوراق رسمية لهم.. وهذا هو الحل بغض النظر عن الحلول غير التقليدية التى لم تأت بنتائج مرجوة حتى الآن!