كل مرة، أحاول الدخول إلي بستان الكلمات.. باحثة عن أغنية القلم الجديدة، أظل طويلاً، محدقة في الصفحة البيضاء، وبين أصابعي قلمي الأسود. مضي زمن طويل، منذ وهبت نفسي.. وكل وقتي، وتأملاتي.. وعصارة تجاربي، وأفكاري، إلي فعل، واحد.. وحيد.. أوحد فعل الكتابة. فعل الكتابة..... الذي منحني شرفي، وكرامتي، ومعني وجودي، جعلني أدرك لماذا تحملت، أمي وجع، وآلام ولادتي. أهدتني الكتابة - دون أن أطلب - سر قوتي.. وأسرار ضعفي.. وقبل أوان الأزمات، تعطيني حقنة المناعة.. وقبل موعد الحصاد، تهديني ثمرة كبريائي، وتميزي. الكتابة... درع واقٍ، من رصاص التفاهات، والهيافات، والكلام الموروث، والسلوكيات العاديات... يرد عني بصلابة، اتهامات، وإدانات، وبذاءات، وإشاعات، ويحملني عالياً، فوق كل الأشياء.. حيث أنتمي. مضي زمن طويل، منذ وقعت عقداً، بيني، وبين فعل الكتابة.. تقتضي شروط العقد، ألا أخون الكتابة وأذهب إلي فعل آخر غيرها، ولو علي سبيل النزوة، أو فضول تجربة، أو رغبة في تذوق ثمرة أخري. وإلا أتحمل عقاب ذلك، وأدفع الشرط الجزائي المنصوص عليه في العقد الرسمي. والشرط الجزائي، ليس مالا أدفعه، أو اعتذارا رسمياً، في كل مكان، أو تقديم قرابين الرضا والسماح والغفران. ببساطة، ينص العقد، علي أن عقوبة خيانة فعل الكتابة، هو سلب قدرتي علي الكتابة.. فقط لا غير. وإن كتبت، ستصبح، كلماتي، بلا مذاق.. رعداً دون مطر.. وشمساً دون أشعة.. وآلم مخاص دون ولادة، ودروبا معتمة دون قمر. فقط، لا غير. ولأنني لا أومن بالعقود الرسمية، الملزمة بالحقوق، والواجبات، فقد قطعت العقد.. وألقيت به، في سلة المهملات، وكيس النفايات. أنا لا أوقع عقوداً رسمية.. أنا من جيل الدقة القديمة، الذي يؤمن بأن الكلمة هي شرف الإنسان وبالتالي من المحال، أن أتراجع عن كلمة أطلقتها. الكلمة مثل طلقة الرصاص، متي أطلقت لا تعود. وفي هذا الزمن، الذي يسميه، أهل النقد والأدب والإبداع، والذين لا علاقة لهم، بالنقد والأدب والإبداع، زمن ما بعد الحداثة.. وقعت فريسة للنصب، والاحتيال، والغش، لأنني من جيل الدقة القديمة. مثلاً، حين يقترض مني، أحد، مبلغاً من المال، أعطيه ما يفك أزمته، ومن المحال أن أطلب منه، أو منها، كتابة إيصال لضمان حقي.. اعتقدت أن الكلمة بالسداد، كافية. كتابة إيصال، تعني أصلاً، غياب الثقة.. والأمانة.. والنزاهة.. وأنني أشتم الشخص المقترض، وأقول له، أو لها، في وجهها: أنت حرامي... أو أنتِ حرامية.. هذا ما تعنيه لي، العقود الرسمية، والإيصالات، بكل أنواعها. ولأن أغلب الناس، في عصر مابعد الحداثة يؤمنون بالعقود الرسمية، ويكتبون الإيصالات، وليسوا دقة قديمة مثلي.. فقد خسرت الكثير من المال، لأني معنديش الوصل كما حدث للمبدع الراقي سليمان جميل علي مدي ساعتين من الفيلم، لم يقل إلا كلمة واحدة، بس لو كنت أخدت الوصل. وأنا مثله، بعد عدة مرات، كنت أقول، بس لو كنت أخدت الوصل. لكنني لست نادمة، أن بيتي، منزوع من الإيصالات، والعقود الرسمية، التي تفترض أن الناس حرامية وفاسدين مسبقاً. صحيح، فقدت شوية فلوس.. لكنني لم أفقد أخلاقي، ومبادئي، وقناعاتي، ودقتي القديمة، وطبعي المشابه، ل سليمان جميل. مضي زمن طويل، منذ وهبت نفسي، ووقتي، وكل حياتي، ل فعل الكتابة، دون وصل. لكنني في كل مرة، أحاول الدخول، إلي بستان الكلمات، باحثة، عن أغنية القلم، الجديدة، أظل طويلاً، محدقة في الصفحة البيضاء، وبين أصابعي، قلمي الأسود. وكأنها أول مرة، أكتب. لماذا تعذبني هكذا، الكتابة، في كل مرة، وأنا لم أخن فعل الكتابة، ولا مرة! ربما تتدلل، لأنها متأكدة من الخيط السُّري العاشق، الرابط، بيني، وبينها، إلي انتهاء عمري. وأنا أقول لها، من حقها الدلال، كما تشاء.. لكنني هذه الأيام، أحتاج إليها، كما لم يحدث من قبل. أكثر من أي وقت مضي، أحتاج كل الثمار التي تمنحها لي، ب سخاء، وسلاسة، وكبرياء. أيتها الكتابة.... بلاش دلال هذه الأيام.. ودعي الكلمات تتدفق كالشلالات. من بستان قصائدي هلت ليالي الشهر الحادي عشر كم أعشق نوفمبر لكن لا تلمني لو وجدتني هذا العام حديقة بلا زهور أو شجرتي