في الأيام الأولي من ثورة التحرير.. كان المستقبل يتشكل أمامي رائعا.. أيامها جمعت آلاف الأحلام والأمنيات الرائعة.. وكانت تكفي لتحويل مصر إلي دولة متقدمة تذهل العالم.. وتصورت أنه في اليوم التالي لتنحي مبارك سيحول المصريون بلدهم إلي ورشة عمل جبارة.. ويتسابق الجميع في بناء مستقبل أفضل.. ويعملون بنفس حماس الثورة في أيامها الأولي.. وكنت معذورا في هذا التصور.. أيامها كان الشباب والشيوخ حولي في الميدان يفسرون لي صارخين أسباب ثورتهم، قالوا وقتها ما معناه: «عيب جدا الأوضاع اللي إحنا عايشين فيها.. ده إحنا مصريين. يعني لازم نسبق ماليزيا والبرازيل».. وهتفوا.. وهتفت معهم «ارفع راسك فوق إنت مصري». في تلك الأيام طال السهر.. وامتد النقاش حول تحقيق الحرية.. والعدالة.. والعيش بكرامة.. وتبادلنا الأحلام والشطائر.. والأغنيات.. ومرت سريعا أيام حكومة أحمد شفيق.. ولم تتح لها فرصة كافية حتي للحكم علي أدائها.. وغرقت حكومة عصام شرف في إطفاء حرائق الفتن والمطالب الفئوية والإضرابات والمليونيات.. وجاءت حكومة الجنزوري مع روعة نجاح المصريين جميعا في اختبار الانتخابات البرلمانية.. وتحقيق بعض أهداف الثورة في جانبها السياسي بعد وضع جدول زمني لانتخابات الشوري ووضع الدستور والانتخابات الرئاسية.. وتسليم السلطة.. وعشنا جميعا مخاض الديمقراطية الوليدة.. وغرقنا جميعا في حوارات.. وخلافات.. وصدامات الديني والمدني.. والقديم والجديد.. وحماس الشباب وحكمة الشيوخ.. وقلق الأقباط.. وطموح الإسلاميين.. ووسط هذا الصخب الهادر لم ننتبه إلا بعضنا للخطر الاقتصادي الذي يواجهنا.. ويهدد المشهد كله.. إنه الاقتصاد يا سادة.. والمشكلة هنا أننا نواجه أزمة اقتصادية حادة.. ويجب أن نواجهها جميعا وإلا اندلعت ثورة فقراء لن ترحم أحدا.. وفي مواجهة هذا الموقف سارعت حكومة الجنزوري في أسابيعها الأولي.. بتوفير علاج سريع للجوانب العاجلة من المشكلة.. فعلت ذلك بحرفية شديدة الذكاء.. بلا أدني مبالغة.. حيث اتجهت إلي تطبيق الأسعار الجديدة للطاقة للصناعات كثيرة الاستهلاك لهذه الطاقة بنسب تصل إلي 33٪.. وبما لا يؤثر علي الأسعار في السوق المحلية.. وبدأت في تطبيق الحد الأقصي للأجور.. وعملت علي تحقيق بعض الوفورات من مخصصات الباب الأول في الميزانية.. وتنفيذ خطة لترشيد الإنفاق العام.. وذلك بهدف تخفيض عجز الموازنة بنحو 20 مليار دولار وبما لا يمس محدودي الدخل.. كما تم وضع خطة للسيطرة علي عجز الموازنة العامة تهدف إلي زيادة الإيرادات.. إلخ. ∎ السقوط أمضيت أكثر من 25 عاما أعمل مندوبا صحفيا لمجلس الوزراء.. بدأتها بحضور المؤتمر الاقتصادي عا م 1982 وبعدها تابعت الميزانيات والحسابات الختامية وعمل اللجان الاقتصادية بأنواعها.. وتابعت عن قرب خطط حكومة فؤاد محيي الدين.. ومحاولات علي لطفي لحل مشكلة الدعم.. واجتهاد د. عاطف صدقي وإنجازاته الرائعة.. وجاءت حكومة د. الجنزوري الأولي لتعمل في بيئة غير مواتية ورغم ذلك بدأت في تنفيذ مشروعات عملاقة مثل توشكي وشرق العوينات وغيرهما.. ثم تابعت كارثة الخصخصة وقادتها حكومة عاطف عبيد.. وشاهدت كيف بدأ انهيار نظام مبارك بعد تولي د. أحمد نظيف رئاسة الحكومة.. وطوال هذه السنوات عشت الأحلام المجهضة.. والأماني التي ماتت في مهدها.. والإمكانيات المهدرة.. وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك أيقنت أنه نظام حكم لا يعرف الشعب الذي يحكمه.. بل لا يفهم بديهية مهمة في عالم السياسة.. ملخصها أن الجائرة الكبري التي ينالها أي نظام حكم في أي بلد في العالم هي رضا الناس.. واقتناعهم بأن استمرار هذا النظام في موقعه القيادي يضيف إلي حياتهم.. ويقلل من معاناتهم.. ويعطيهم أملا في المستقبل.. يحدث ذلك عندما يخاطب هذا النظام جماهيره بلغة الإنجاز التي يتردد صداها في أحاديث الناس.. وفي جيوبهم وارتفاع مستوي معيشتهم قبل أن يقرأوا عن هذه الإنجازات في الصحف.. ويزداد نجاح هذا النظام عندما يتحدث بلغة الإنجازات المبهرة للعالم فتتدفق الاستثمارات الدولية. باختصار بدأ سقوط نظام مبارك عندما لم يؤمن رموزه بأن بناء نظام اقتصادي قوي في مصر يجب أن تكون أصوله وثرواته هي الإنسان المصري نفسه بكل قدراته وإنتاجه.. وإبداعه.. واتجهوا إلي اقتصاد يعتمد علي بيع ما نملك من أصول سواء كانت أراضي أو مصانع أو بنوكا أو غيرها لسماسرة أجانب يستحوذون بفضل هذه السياسات وما صاحبها من فساد علي أموالنا وأسواقنا.. لقد كانت سياسات قائمة علي الاستسهال أو التربح.. وكانت ضارة بمصر وبمستقبلها.. والأخطر أنها أهدرت كفاح أجيال من المخلصين من أبناء هذا البلد الذين ناضلوا لبناء الدولة العصرية ومؤسساتها. وكان من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها نظام مبارك أنه أهدر العدالة في توزيع الثروة الوطنية بسبب تزاوج السلطة والمال.. وتوحش بعض رجال الأعمال في امتلاك الثروات الهائلة علي حساب قطاعات واسعة من الشعب لدرجة أن تقريرا أعده البنك الدولي بالتنسيق مع الحكومة المصرية عام 2005 أشار وقتها إلي أن أفقر 20٪ من المصريين يحصلون علي 6٪ فقط من الدخل القومي.. بينما يحصل أغني 20٪ من المصريين علي 46٪ من هذا الدخل.. كما أخطأ هذا النظام عندما تعمد التهميش السياسي لقطاعات واسعة من الجماهير المصرية.. لدرجة أن الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2010 حصل فيها الحزب الوطني علي نحو 95٪ من مقاعد البرلمان!.. ولتوضيح خطورة تلك الأخطاء يجب أن نذكر أن كل الدول المتقدمة تلتزم بتطبيق نظم للتخطيط الاجتماعي.. وإن كان ذلك يتم تحت مسميات مختلفة.. ولكنها سياسات تضمن مشاركة الجميع حكاما ومحكومين في تحمل المسئوليات والأعباء وأيضا المشاركة في المكاسب وفخر المشاركة في تحقيق الإنجازات.. بحيث يصبح الشعب كله «كل في مجاله» طاقة حركة نحو التقدم.. ويصبح القادة علي كل المستويات هم من يحفزون ويوجهون هذه الطاقة لتحقيق الأهداف المطلوبة.. ويتم غالبا تنفيذ هذه الخطط ومراجعة مدي نجاحها بوسائل علمية وفنية مختلفة تظهر مدي توافق حركة الجماهير مع حركة القيادات.. ويظهر المشاكل في بداياتها حتي يمكن حلها قبل أن تتحول إلي إضراب أو حتي ثورة شعبية. ∎ الأزمة للأمانة كانت أصوات كثيرة تتحدث عن الأخطاء خلال الثلاثين عاما الماضية.. سياسيون وإعلاميون ومواطنون عاديون.. والأسماء هنا كثيرة ولا حصر لها.. وشهدت مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك أكثر من ثلاثة آلاف حركة احتجاجية وإضراب قامت بها قطاعات مختلفة من الشعب المصري.. وانتهي الأمر.. وبعد مرور عام علي ثورة يناير يجب أن نذكر أننا تأخرنا كثيرا في مواجهة الأزمة الأخطر التي تضخمت خلال العقود الثلاثة الماضية.. وأصبحنا جميعا نواجه وضعا اقتصاديا خطيرا بكل ما تحمله الكلمة من معني.. وتتمثل بعض جوانب هذه الأزمة وفقا لبيانات المصادر الرسمية «مثل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وتقارير البنك المركزي.. وغيرها»، في تزايد عجز الميزان التجاري ليصل إلي 25 مليار دولار وتزايد عجز الموازنة ليصل إلي 134 مليار دولار.. وتناقص احتياطي النقد الأجنبي من 6,36 مليار دولار إلي 2,20 مليار دولار وتزايد الدين الداخلي ليتجاوز التريليون ومائة مليار جنيه وزاد الدين الخارجي علي 35 مليار دولار.. وضاعف من حجم هذه الأزمة انعكاس الأزمة المالية العالمية علي الاقتصاد المصري.. وتمثل ذلك في بعض جوانبه زيادة أسعار السلع التي نستوردها بنسبة 20٪ وانخفاض قيمة العملة أمام كل العملات الدولية.. وجاءت تداعيات الربيع العربي لتزيد أزمتنا تعقيدا بعد عودة العمالة المصرية من ليبيا وانهيار قطاع السياحة.. وتوقف أكثر من ألف مصنع مصري عن العمل وتوقف تدفق الاستثمارات الدولية والعربية إلي مصر تقريبا.. كل هذا أدي إلي زيادة حجم البطالة بشكل ينذر بالخطر. أخطر ما في هذه الأزمة الاقتصادية أن أي حكومة مهما كانت كفاءتها لا تستطيع وحدها أن تفعل شيئا فعالا في مواجهتها.. والحل الوحيد في تقديري هو أن يرفع الجميع شعار «المصريين إيد واحدة من أجل مصر».. حكومة ومواطنين.. عسكريين ومدنيين.. شبابا وشيوخا.. إسلاميين وأقباطا.. لأن الأزمة إذا انفجرت لن تستثني أحدا.. لذلك علينا جميعا أن نساند أجهزة الدولة في فرض الأمن وإنفاذ القانون ووقف الاحتجاجات ولو لفترة حتي تستقر الأوضاع.. علينا أن نتمسك بالأمل في المستقبل.. وبالقدرة علي الحلم رغم الأزمة، ففي مصر الإمكانيات الهائلة.. والقوي البشرية المبدعة وهي كثيرة.. ولا ينقصنا إلا الإرادة الفعالة.. والوطنية الصادقة.. والعمل الجاد علي أسس علمية وتخطيط سليم.. وعلي الحكومة أن تسارع بإنشاء مجلس اقتصادي لإدارة حوار مجتمعي مع كل القوي الفاعلة بلا استثناء لوضع مشروع نهضوي يعيد لمصر مجدها رغم الأزمة التي تواجهها.. لأن فقدانه يعتبر كارثة قومية بكل المقاييس.. لأننا إذا فقدنا الأمل فلا سبيل للتطور والابتكار. ولنتذكر أن دولا كثيرة واجهت أزمات اقتصادية أسوأ مما نواجهه الآن.. ورغم ذلك نجحت في تحقيق طفرات هائلة في مدي زمني قصير.. وكان السر في نجاح هذه الدول أنها تشاركت مع مواطنيها في المخاطر والمكاسب وفي الحلم والأمل.. وأنها دول تحدثت بلغة الإنجاز التي يفهمها العالم فتدفقت الاستثمارات الدولية.. ومن هذه الدول مثلا تركيا التي نجحت في رفع دخل المواطن فيها من 2500 دولار سنويا عام 2003 إلي نحو 11 ألف دولار العام الماضي.. ومنها أيضا ماليزيا التي خاضت تجربة تعاونية رائعة وكانت بدايتها صغيرة في تنمية مناطق الصيد في خليج «مالقا» في ظل ظروف اقتصادية معقدة.. ولكنها ناضلت في تطبيق المفهوم الشامل للتنمية الذي يأخذ في الاعتبار الإنسان والمكان والنشاط في إطار رفع مستوي الواقع.. واستشراف مزيد من الرقي في المستقبل.. أي التنمية بمعني الإثمار الدائم وليس بمعني حل مشكلة حاليا.. باختصار لدينا في مصر دراسات وافية لكل التجارب الناجحة في العالم.. والأهم أن لدينا في مصر أكثر من 90 ألف بحث علمي من إنتاج الجامعات ومراكز البحوث المصرية.. تناولت كل المشاكل المصرية المهمة والثانوية.. ويمكن الاستفادة منها.. والأهم أن لدينا ثروات بشرية هائلة في كل المجالات علينا أن نستثمرها ونطلق طاقاتها الإبداعية.. وعلينا أن نبدأ في ذلك من الآن. وفي النهاية لا أعرف لماذا تذكرت سيد درويش هذا العبقري الذي غير تاريخ الغناء العربي، فعل ذلك رغم فقره المادي وصعوبة التحديات التي واجهها.. وتذكرت كلمات غناها تقول: «ليه يا مصري كل أحوالك عجب.. تشكي فقرك وأنت ماشي فوق دهب».. وأتساءل مثله: صحيح ليه؟.. لماذا لا نفعل مثله ونتحدي الصعوبات ونحقق نجاحات مبهرة؟.. ونغير وجه التاريخ؟!