أصبح الإعلام فى الفترة الأخيرة أهم أداة تستخدم لإدارة المعارك السياسية وتنفيذ سياسات خاصة بالجهات التى تمولها، وهو ما يفسر فقد الثقة المتزايد فى الإعلام وتأرجح المشاهد بين القنوات الرسمية التى دائما ما تتهم «بتلميع» وتجميل صورة الأنظمة الحاكمة والانصياع التام لرغباتها، وبين القنوات الإخبارية التى إما أن تكون تابعة لدولة أجنبية لها نفوذ سياسى فى المنطقة أو ممولة من قبل دول خليجية يراودها حلم الريادة أو من خلال أموال ملوثة تحتاج إلى غسيل. الإعلام كالنار إما أن يجلب الدفء أو يشعل الحرائق بالإثارة والتهييج وتنفيذ الأجندات المشبوهة. وعن ذلك يقول أحمد أنيس رئيس الشركة المصرية للأقمار الصناعية ورئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون سابقا إن الفيصل هو ضمير الإعلامى واحترامه لنفسه ولتاريخه فمراعاته لأخلاقيات المهنة هى الضمانة الوحيدة لتقديم إعلام هادف دون إشعال المعارك والفتن بين فصائل المجتمع. أن الإعلامى وتمكنه من أدواته يكسبه احترام الجميع، وكلما كان الإعلامى ضعيفا مهنيا كان من السهل اصطياده لتطبيق سياسات موجهة . الكاتب لويس جريس يرى أن المشكلة الحقيقية تكمن فى المسئولين عن إدارة الشئون فى مصر فهم غير مبالين بقدر الإعلام الذى يجب أن يستغل لتوصيل رؤى الوطن إلى أكبر شريحة من الجمهور وهذا يفرض عليهم الاستعانة بالكفاءات القادرة على ذلك لأن من يتصدرون الصورة الآن هم المنتفعون والراغبون فى المناصب أما القيادات الحقيقية فى الإعلام فلا يتم الاستعانة بها. ويضيف إن الإعلام يكون سبباً فى إحداث حالة من البلبلة والدعوة إلى إثارة الفتن عندما لا ينشر الأخبار من مصادرها الحقيقية وإنما يأخذ الأخبار من أصحاب المصالح والذين لهم نوايا غير حسنة تجاه المجتمع. فمعظم الإعلاميين لا يتقنون المهنة ويحتاجون إلى تدريب وتطوير حتى يكونوا قادرين على أن يعكسوا ما يجرى فى المجتمع وليس ما يريدون نقله عن المجتمع. أنا أرى أن الإعلام الحقيقى هو الذى ينوب عن الشعب فى طرح الأسئلة التى تدور بداخله. ولكن مع الأسف الإعلام مازال يهتم بأصحاب النفوذ والمناصب والمال وأهمل المواطن البسيط وهذه هى الطامة الكبرى.. كما أن تدخل رجال المال - كما هو حاصل الآن - فى الإعلام الخاص هو استمرار لمسيرة الخراب والتخريب التى بدأت مع النظام البائد. فبعد أحداث ميدان التحرير تولد لدى الجميع اعتقاد بأن الناس لا تريد سوى معرفة ما يدور داخل الميدان بالرغم من أن مصر بها قضايا أخطر فمثلا عندما أشيعت أخبار عديدة عن توقف عجلة الإنتاج بسبب اعتصامات ميدان التحرير وهى معلومة فى غاية الخطورة يمكن أن يتوقف عندها مستقبل البلد بأكمله أردت أن أكتشف وضع المصانع بنفسى وأتحقق من هذه المعلومة وما وجدته كان عكس ذلك تماما فعجلة الإنتاج لم تتوقف وإنما بسبب تعطل التصدير توقفت بعض خطوط الإنتاج عن العمل على أن تعود مرة أخرى بعد استقرار الأوضاع. الإعلام فى بعض الأحيان يكون وسيلة لخلق نقاشات بين مؤيد ومعارض ولا أرى عيباً فى ذلك طالما أن المعارك موضوعية فيمكن أن تعرض بحيادية شديدة، أما المعارك «الهايفة» فهى التى تعمل على تهييج الرأى العام وإحداث بلبلة. ويقترح «جريس» أن يكون هناك مجلس وطنى للإعلام يضم شيوخ وأساتذة الإعلام وأكبر عدد من شباب الإعلاميين ويتولى إدارة المجلس إعلامى شاب حتى يكون متفاعلاً مع المشاكل التى يمر بها الإعلام ومتحمساً لخلق وضع أفضل للإعلام المصرى. إبراهيم الصياد رئيس قطاع الإخبار يؤكد أن هناك خيطاً رفيعاً بين نقل الخبر بمهنية ونقل الخبر بقصد تهييج الرأى العام وإذا افترضنا حسن النية من قبل القائمين على القناة وأن هدفهم هو مجرد تغطية الحدث فإن الحماس الزائد أحيانا قد يؤدى إلى تضخيم الخبر وإعطائه أكثر مما يستحق وبالتالى فإن مردوده لدى المشاهد سيكون بقدر هذا التضخيم. ويضيف إن كل قناة لها أجنداتها التى تسمى مهنيا بالسياسة التحريرية والإعلام أداة لتحريك المعارك السياسية ونتذكر الخلاف المصرى - الجزائرى الذى حدث بسبب مباراة كرة قدم، فالسبب الحقيقى وراء هذه الأزمة التى نشبت وقتها كان الإعلام. ويضيف الصياد: في البلاد العربية لا يستغل الإعلام عادة إلا فى الإثارة والتهييج وإشعال الأجواء بالتضخيم المبالغ لكن فى الدول الأجنبية يتم الاستفادة من الإعلام إلى أقصى درجة حتى مع وجود النية إلى توجيه الرأى العام والتأثير عليه فعلى سبيل المثال نجد أن الحملة الانتخابية التى فاز بها حزب العمل البريطانى برئاسة تونى بلير عام 1998 قد اعتمدت على الترويج لبرنامجه الانتخابى بشكل محايد وموضوعى، أما فى الدول العربية فاستفادة السياسيين من الإعلام فى الدعاية الانتخابية أمر ثانوى لكنهم يجيدون استغلاله فى القضاء على أعدائهم وتلويث سمعتهم وهذا ما دفع بعض السياسيين ورجال الأعمال إلى السعى لامتلاك الصحف والقنوات الفضائية فى السنوات الأخيرة بعد أن فطنوا أن الإعلام أصبح أداة الهجوم والدفاع الأساسية فى الكثير من المعارك. والإخوان المسلمون كانوا واعين لدور الإعلام جيدا واستغلوه فى الترويج لهم وفى ظل تضييق الحزب الوطنى المنحل عليهم فقد استطاعوا عبر شبكة الإنترنت خلق حلقة من التواصل بينهم وبين مؤيديهم من خلال المواقع الإخبارية المتعددة التى أطلقوها وكان أشهرها «إخوان أون لاين» ليفتحوا بذلك باباً جديداً للإعلام أمام النشطاء السياسيين بمختلف انتماءاتهم وهو الإعلام الإلكترونى الذى أصبح يستحوذ على ثقة الناس واهتمامهم أكثر من أى وسيلة أخرى وأصبح فى منافسة شرسة مع الإعلام المرئى والمقروء بل إنه مصدر للمعلومات فى بعض الأحيان وهو يؤثر أيضا على توجهات الإعلام لأنه دائما يحمل إنتماءات سياسية مختلفة، وإن كان يشوبه حاليا وجود بعض الأكاذيب والإدعاءات التى تشحن الناس وتثير البلبلة لمصلحة جهات معينة هدفها إحداث فوضى فى البلاد. د. فاروق أبوزيد أكد أن هيكل الإعلام سقط بسقوط النظام السابق مشيراً إلى أنه يقوم الآن بوضع دراسة جديدة لوزارة الإعلام ستشمل رصد جميع القنوات الفضائية الخاصة والعامةوبرامج «التوك شو» التى تعمل على إثارة المجتمع وبث أفكار مشوشة له وسوف يتقدم بها فور الانتهاء منها. مشيراً إلى أن ما دفعه لذلك هو الانهيار الذى أصاب مؤسسة الإعلام والإعلاميين بالشلل سواء من قلة الانفرادات وتكرار الضيوف وتناول أكثر من قناة لقضية واحدة ونفس المنظور دون التعديل عليها أو تناولها بشكل مختلف. د. ليلى عبدالمجيد اعتبرت أن الفترة الانتقالية التى تمر بها البلاد فى الوقت الراهن هى أحد أسباب تخبط الإعلام المصرى فى تلك المرحلة مشيرة إلى أن صورة الإعلام لن تتضح إلا بعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ووضع دستورللبلاد. وأكدت أن هناك جانبا آخر تمارسه برامج «التوك شو» وهو تسليط الضوء على شخصيات بعينها كانت قبل الثورة خادمة للنظام وتابعة له ولكن عقب أحداث 11 فبراير بتنحى الرئيس السابق «حسنى مبارك» بدأت الأجندات تختلف والتوجهات تتغير لترتدي هذه الشخصيات ثوب البطولة ولتعلن أنها هى صاحبة الشعلة الأولى فى أحداث الثورة المصرية. د. محمود علم الدين يرى أن الموقف يحتاج الآن إلى مراجعة شاملة لمنظومة العمل الإعلامى فى مصر بشكل يتوافق مع التحولات الجارية فى النظام السياسى المصرى لتوفير مجال عام يتيح حرية التعبير على قدم المساواة لكل أطياف الإعلام ووسائله الحكومية والحزبية والخاصة، الدولية، والعربية، وكذلك الشفافية الكاملة فيما يتعلق بمسألة التمويل والشركاء وحماية حقوق الإعلاميين واحترام حقوق الجمهور فى إعلام منصف وعادل وموضوعى، وحرية تداول المعلومات وتحقيق المهنية الإعلامية بكل ما تتضمنه من تحقيق المصداقية، بالإضافة إلى الموضوعية والدقة واحترام خصوصية الجمهور وقيم المجتمع. د. علم الدين اقترح فى هذا الصدد إنشاء هيئة مستقلة «لتنظيم الإعلام» تتولى إصدار التراخيص عبر الشركات المساهمة للقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية وشركات النشر الإلكترونى التى تقدم خدمات على شبكة الإنترنت، مع وجود مراقبة صارمة للتجاوزات التى قد ترتكبها وتتعارض مع تقاليد وقيم المجتمع الشرقى بما لا يمس الحريات المهنية. كما يجب تفعيل ميثاق الشرف الإعلامى لضمان تحقيق المعايير المهنية المتفق عليها عالميا.