كنت أتمني لو أن حسني مبارك واجه المحكمة واقفا علي قدميه مرفوع الرأس.. كما المتهمين المحترمين.. يواجه الحجة بالحجة.. ويقارع الاتهام بالدفاع.. ويتحدث عن نفسه وإنجازاته.. ويواجه بشجاعة قائمة الاتهامات التي توجهها له المحكمة.. لكن الأستاذ فضل مواجهة المحكمة نائماً.. بما يدل علي أنه خائب حتي في آخر مشهد له علي الساحة السياسية والشعبية..! في التاريخ والجغرافيا.. هناك عدد كبير من الرؤساء والزعماء والقادة.. واجهوا المحاكمات الجنائية والسياسية برأس مرفوع.. منهم صدام حسين الذي اغتال شعبه وحكمه بالحديد والنار.. لكنه عند المواجهة في المحكمة وقف مرفوع الرأس يتحدث عن نفسه كزعيم لأمته. وخذ عندك الديكتاتور الشيللي «بينو شيه» العجوز والمريض بأمراض الدنيا.. والذي يعاني العته والخرف.. واجه المحكمة جالسا علي كرسي متحرك.. يجيب علي الاتهامات بثبات لا يليق بسنه المتقدمة.! ولا أعرف من أفتي بأن يدخل حسني مبارك القفص محمولا علي سرير طبي.. في سابقة لم تحدث في محاكمات التاريخ.. وكأن مصر تحاكم متهما عاجزا مريضا.. وكان من الطبيعي أن يسمح له بالجلوس علي كرسي متحرك.. لكن استراتيجية الدفاع الذي أصر علي السرير الطبي داخل القفص.. كانت تخطط لاستدرار التعاطف الداخلي والخارجي.. بتصوير المتهم بمظهر العاجز الذي لا يقوي علي الوقوف..! ارتضي حسني مبارك إذن أن يواجه المحكمة ذليلا مكسورا.. تماما كحرامي الفراخ.. وليس كرئيس للدولة حكمها ثلاثين عاما كاملة.. والمفترض أن يكون دفاعه سياسيا بالدرجة الأولي.. أن يقول فعلت كيت وكيت.. وبنيت كذا وكذا.. بدلامن رقاده علي السرير مجيبا رئيس المحكمة بصوت مشروخ.. أفندم..!! أين كرامتك يا أستاذ.. أين الصلف والغرور.. أين الدكتوراه في العند.. كلها تبخرت وأنت تنفذ تعليمات المحامي.. عندما ينادي علي اسمك قل أفندم.. وعندما يواجهك بالاتهامات أنكرها جميعا.. هكذا فعل.. وهكذا فعل الأنجال.. صورة طبق الأصل.. سبحان الله.. يعز من يشاء.. ويذل من يشاء.! وحضرة المحامي في إطار «الشو» الإعلامي يطالب باستجواب ألف وستمائة شاهد إثبات.. ويطلب استدعاء جميع رموز وزعماء وقيادات الدولة.. ووالله لو استجابت له المحكمة في الغد.. فسوف يطلب استدعاء بوش وأوباما وكلينتون.. علي اعتبار أن الهدف هو إطالة أمد الجلسات وليس الوصول إلي الحقيقة والعدالة المطلقة.! وأقطع ذراعي أن حضرة المحامي هو المسئول عن تلك الهوجة من المحامين.. وهناك محامون أصليون.. وهناك متطوعون.. ناهيك عن المحامين عن المدعين بالحق المدني..! ومع كامل تقديري واحترامي لفكرة الشفافية في المحاكمات.. إلا أن التصوير التليفزيوني في رأيي.. يعني فتح الباب أمام هواة الشهرة من المحامين.. ولا تنس أن التصوير التليفزيوني يفقد قاعة المحكمة هيبتها.. ويضع القاضي تحت طائلة الرأي العام.. وتصور سعادتك أنه لو أراد أن يحكم بالبراءة.. فماذا سوف يحدث له.. ولهذا في دول الغرب الديموقراطية.. والحريصة علي سمعة عدالتها العمياء.. لا يسمح بالتصوير التليفزيوني.. بل لا يسمح بالتصوير أصلا.. ومسموح فقط للرسامين بحضور الجلسة ورسم كروكي لأحداثها حتي يطلع الرأي العام علي ما يدور في المحكمة دون إخلال بحق المتهم والمحامي والقاضي في الهدوء والتركيز بعيداً عن فلاشات المصورين وأضواء الكاميرات المزعجة.. ثم ما هي حكاية العشرات من المحامين عن المدعين بالحق المدني.. وفي تقديري أن حضورهم ليس ضروريا في المرحلة الأولي من المحاكمة.. التي تتطلب إثبات الجريمة ودور المتهمين فيها.. وبعدها يأتي دور المحامين لطلب التعويض المناسب.. أما وجودهم هكذا في مظاهرة أمام القاضي فلا معني له إلا المزيد من الفوضي وغياب التركيز.. من الواضح إذن.. أننا لسنا أصحاب سوابق في محاكمة الرؤساء المخلوعين.. فقد ارتكبنا كل حماقات التجربة الأولي في محاكمة حسني مبارك.. وهي محاكمة تاريخية بالفعل.. لكنها تحتاج إلي التعقل والتنظيم وعدم الانجرار وراء «الشو» الإعلامي الذي يسعي إليه حضرة رئيس الدفاع عن المتهم الأول.. يا ميت خسارة.. كنت أتمني لو أنه واجه المحكمة واقفاً علي قدميه.. مرفوع الرأس.. لكنه ارتضي لنفسه وتاريخه أن يربط رأسه ويعصب عينيه ويتسول الرأفة والعطف من جمهور الحاضرين.. مع أنه المشهد الأخير علي ساحته السياسية والشعبية..!!