كنت أظن إلي وقت قريب أن حلم التغيير هو وهم عبثي يمكن أن تطلقه رؤية خيالية لمؤلف مسرحي أو سينمائي أو أبيات قصيدة محلقة لشاعر رومانسي، ومن ثم فإن الثورة تصور أقرب إلي المستحيل، فالمصريون صاروا منذ عقود كثيرة قابلين بالظلم والاستبداد راضين بالتعايش معه دون تمرد رغم الانعدام الصارخ لأبسط مظاهر العدالة الاجتماعية، حيث نصف المصريين يعيشون حياة غير إنسانية تحت خط الفقر في مدافن وعشوائيات في ظل نظام بوليسي قمعي وفوارق طبقية هائلة وفساد مستشري استشراء لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر. وكنت أتصور أن أحد الأسباب القوية التي تجعل المصريين لا يثورون هو انتشار التفسير السلفي الوهابي للدين منذ السبعينيات وثقافة الحلال والحرام التي باتت تسيطر علي الشارع المصري حيث التدين الشكلي المرتبط بالكثير من الدجل والخرافة والشعوذة وفتاوي دعاة الفضائيات ودعواتهم المتخلفة.. في مقابل شيوع الإعلاء من شأن الطائفية «فوق المواطنة» لدي الكثير من المسيحيين الذين يتصرفون وكأنهم مجرد جالية تتمركز في «جيتوهات» عنصرية تعاني من مشاكل طائفية تحصرها في مطالب دينية محدودة تبعدهم عن مشاكل دنيوية تخص مجتمعا بأكمله - بمسلميه ومسيحييه - بأغلبيته وأقليته.. ويتفقون في النهاية مع التيار السلفي في رجعيته وتخلفه وكراهيته للعلم.. واستسلامه للتسليم بالقضاء والقدر وتعاليم الكهنة وبركات ومعجزات القديسين. ومن الطبيعي أن هذا الاتجاه السلفي يحجب عن الناس رؤيتهم الصحيحة لواقعهم المعاش فيفسرون ظلم الحاكم واستبداده ومعاناتهم الاجتماعية بأنها عقاب إلهي يستحقونه جزاء ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الخالق عز وجل تستوجب توبة لا تتحقق سوي بالانخراط في الصلاة والتعبد والزهد في متاع الدنيا الفانية طمعا في مباهج الجنة الباقية.. أو أن تكون تلك المظالم اختبارا من الله لمدي إيمان العبد وصبره علي المكاره.. ومن ثم فإن الحاكم يتمتع بموجب هذا المفهوم بحرية مطلقة في فرض استبداده وطغيانه حينما يتقبل الرعية ظلمه وجبروته بخضوع واستسلام، فالسلفيون يرون وجوب الطاعة المطلقة للحاكم مادام يؤدي شعائر الدين مهما قمعهم ونهب حقوقهم وهذا الفهم بالطبع أبعد ما يكون عن جوهر الإسلام الحقيقي. -- نفس المفهوم تبثه الكنيسة وأكده البابا في أول بيان للكاتدرائية أثناء التظاهر بميدان التحرير.. حيث استنكر الثورة وأمر الأساقفة بالمشاركة في مظاهرة تأييد الرئيس السابق «حسني مبارك» بميدان «مصطفي محمود».. وقد خاف هؤلاء الأساقفة من الإعلان عن رأيهم المؤيد للثورة واكتفي أحدهم بالتصريح نصاً بأنه لطم علي وجهه حينما سمع تصريحات البابا المناهضة للثوار. والحقيقة أن البابا في تخطيه لدوره الروحي والديني وممارسته دور الحليف السياسي للنظام البائد - وهو تحالف يخضع ل.. «ألاعيب» متبادلة بينه وبين السلطة معقدة ومتشابكة بها شد وجذب وترغيب ووعيد - يستجيب لتلويح السلطة بفزاعة الإخوان المسلمين ويستخدم الأقباط ك «كارت» يقايض به السلطة ويساومها علي كثير من مطالبه التي كثيرا ما تكون غير مشروعة.. تلك المطالب الطائفية التي لا نتصور أن سلطة وطنية ديمقراطية قادمة سوف تسمح بها.. منها مثلا ممارسة الكنيسة دور الأجهزة الأمنية باعتقال سيدتين مصريتين هما «وفاء قسطنطين» و«كاميليا شحاتة» داخل أسوار دير أو كنيسة وسحق إرادتهما وحريتهما ومنعهما من ممارسة حياتهما الإنسانية في تعد سافر وتحد مباشر للقانون الوضعي ولحقوق المواطنة وحقوق الإنسان ومنها أيضا تحدي البابا لأحكام القانون التي صدرت ضده في العديد من قضايا الأحوال الشخصية وإعلانه عدم تنفيذها بحجة مخالفتها لنصوص الإنجيل ومنها أحكام نهائية قاطعة غير قابلة لاستئناف أو نقض.. ذلك بالإضافة إلي رفض الكنيسة أن تكون ميزانيتها وأموالها خاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.. وقد نشر في جريدة «روزاليوسف» مؤخرا أن بيانا صدر عن «الاتحاد القبطي الأمريكي» يدعو الشعب القبطي إلي الاعتصام لمحاسبة البابا علي الأموال التي لديه، والتي تقدر بنحو مليار دولار.. والمطالبة بعودة المطارنة والكهنة المعزولين تعسفيا وعلي رأسهم مطران الأقصر «الموجود تحت الإقامة الجبرية.. والدعوة إلي عزل البابا شنودة وأتباعه من الكهنة». -- المهم أنه - لحسن الحظ - خاب ظني فيما يتصل بتصوري غياب الحس الوطني والعجز عن الثورة نتيجة شيوع التيارات السلفية.. فإذا بتوحد شباب التحرير منضما إليهم الملايين من الشعب المصري منصهرين في بوتقة واحدة مندمجين في نسيج متجانس يعلي من شأن المواطنة ويقتل الفتنة ثائرا مطالبا بدولة مدنية معاصرة حرة دون شعارات وطنية تبث الفرقة في صفوف وطن يتغير وينهض ويحلم.. وأسعدني أن أعلن تراجعي عن توجسي السابق بنجاح دعاة الردة والتخلف في إطفاء نور الحضارة كما أسعدني أن تعود مصر كما كانت مضيئة بأضواء الرقي والتحضر سافرة مبتهجة جميلة لا تخفي جمالها... ولا تباهي بقبحها وتشددها وتعصبها المقيت. لكن لأن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.. أو لأن التغيير لا يتم بعصا سحرية بين يوم وليلة.. وفيما يشبه الانقضاض السريع الخاطف شهد يوم الجمعة قبل الماضي في ميدان التحرير تراجعاً مزعجاً يشي بخطف الثورة.. فقد أطل السلفيون من جديد محاولين تصدر المشهد والبروز في أمامية الكادر فمنعوا أحد شباب الائتلاف من الصعود إلي المنصة لمخاطبة الجماهير المحتشدة.. وارتفع شعار الشعب يريد تحكيم الكتاب.. ودوي الهتاف به في عدة محافظات منها المنوفية.. وكذلك شعار لا مدنية لا علمانية إسلامية إسلامية بالإضافة إلي منشورات وزعها سلفيون في أسيوط تدعو لقيام دولة إسلامية ونزع سلفي صورة الشهيدة الشابة سالي زهران من بين صور الشهداء لأنها سافرة... بينما دافعت أمها عن ذلك مؤكدة أنها محجبة وأرسلت لهم صورة أخري لها بالحجاب.. -- في نفس الوقت الذي بدأ فيه الإخوان الأقباط في المطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستور واحتدم الجدل من حولها من جديد بين قلة مثقفة معارضة وأغلبية مؤيدة تعاني من بارانويا الاضطهاد خوفا من تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم.. وباختصار فإن تلك العودة الحثيثة إلي ظهور ثعابين الطائفية من جديد من الجانبين الإسلامي والقبطي يمثل الفرصة الذهبية لأعداء الحرية والديمقراطية والحياة والحضارة.. وإلي أنصار العهد البائد- لشق الصف من جديد وإضعاف الثورة ومن ثم القضاء عليها.. وإلي إحياء خطاب كريه يقوض بناء دولة مدنية ليبرالية حديثة تمحو ظلالاً كثيفة من التخلف والجاهلية تكونت في العقود الماضية.