«السيّد ما زالَ هُنا.. يتمشّى فوقَ جسورِ النيلِ.. ويجلسُ فى ظلِّ النخلاتْ.. ويزورُ الجيزةَ عندَ الفجرِ.. ليلثمَ حجرَ الأهراماتْ. يسألُ عن مصرَ.. ومَن فى مصرَ.. ويسقى أزهارَ الشرفاتْ.. ويصلّى الجمعةَ والعيدينِ.. ويقضى للناسِ الحاجاتْ ما زالَ هُنا عبدُ الناصرْ.. فى طمىِ النيلِ، وزهرِ القطنِ.. وفى أطواقِ الفلاحاتْ.. فى فرحِ الشعبِ.. وحزنِ الشعب.. وفى الأمثالِ وفى الكلماتْ ما زالَ هُنا عبدُ الناصرْ.. من قالَ الهرمُ الرابعُ ماتْ؟»
يتساءل «نزار قبانى»: من قال إن «الهرم الرابع» مات؟!. «عبدالناصر» لم يمت، رغم رحيله الجسدى، منذ خمسة وأربعين عاماً، حفر اسمه عميقاً فى أغوار الوطن، ولذلك ليس مصادفةً أن يترحم البسطاء على عهده، ويحنوا إلى أيامه. ربما لأنها الأيام الوحيدة التى وجدوا فيها قلباً يحنو عليهم بالفعل. ولماذا نتذكر الرجل الكبير، الآن؟!. ببساطة لأنه فى اليوم الثالث والعشرين من يوليو، يكون قد مرّ على الثورة التى قادها، ثلاثة وستون عاماً، أى ثلثا قرن بالتمام والكمال. ومن الطبيعى فى هذا اليوم أن نتذكر الشخص الذى ارتبط اسمه بهذه الثورة. المصرى الصميم، الذى قاد عملية التغيير الثورى فى المجتمع، أخطأ وأصاب. فاز وخسر. انتصر وانهزم، لكنه دوماً لم يتخل عن حلم أمته. «جمال عبد الناصر حسين»، ابن موظف البريد البسيط، الذى برز كالشهاب فى سماء المحروسة، وخلال بضع سنوات، أصبح، وثورته، ومبادئه، ملء السمع والبصر، ورمزاً لتوق المحرومين والمستبعدين والمهمشين، للعدل والحق والحرية، وتحول من «جنرال» بسيط يلبس البدلة الكاكية، إلى علمِ يُشار له بالبنان، وزعيمِ معترفٌ به، لا لمصر وحدها، وإنما للوطن العربى كله، فضلاً عن دول المنطقة والعالم الثالث. ولقد سرح بى الفكر فى هذه المناسبة، وأنا أستذكر تاريخ جيلنا مع «الهرم الرابع»، الذى أحببناه وأكبرناه، وغضبنا منه، وتمردنا عليه، ولكننا أبداً لم نكرهه أو نشك لحظة فى حبه لوطنه، لأننا أدركنا منذ أول مرة رأينا فيها لمعة حبّات العرق على طلعة جبينه. وتصورت، فيما يتصور المُتَخَيِّلُ، أنه لايزال حيّاً يسعى بيننا، وسألت نفسى: ماذا كان سيفعل فيما يواجهنا من محن وتحديات؟!، وكيف كان سيتصرف إزاء ما يُصادفنا من تهديدات، واخترت بعض موضوعات، حاولت أن أتوقع ردود فعله، استبصاراً بما نعرفه عنه من طباع، وماندركه من سجاياه. «مات عبد الناصر»، ولم نعرف له ابناً يُعِدّهُ لوراثة عرشه!، ولا بنتًا تسعى لكى تفرض هيمنتها باسمه، أو زوجة تحكم من خلف، ستار كسيدة أولى. ويعرف الجميع أنه حين رحل لم يكن فى ذمته إلا قروشاً قليلة، فقد كان نزيهاً، عفيفاً، نقى الصفحة، لم تُلوث سمعته صفقات المليارات، ولا فاحت من سلوك أفراد عائلته رائحة العفن. وحين ثار الشباب بعد نكسة 1967رفضاً للهزيمة، وطلباً للتغيير، رد قائلا: «الشعب يريد التغيير.. وأنا معه»! فلو كان موجوداً بيننا، لكان فى طليعة المؤيدين لثورة 25 يناير، على فساد السلطة المباركية، ولخرج فى مقدمة الصفوف يهتف مع الجماهير الثائرة: «الشعب يريد إسقاط النظام»!. ولأنه كان كارهاً للمتاجرين بالإسلام، رافضاً للمتمسحين بالدين، ولأنه يعرف «جماعة الإخوان المسلمين» الإرهابية، فلست أشك لحظة أنه كان سيقف فى أول طابور المناهضين لها، حينما اغتصبت الثورة والسلطة، بعد 25 يناير 2011 وفى صفوف الملايين الثلاثين التى خرجت فى 30 يونيو، تهز أرجاء مصر وهى تهتف: «يسقط حكم المرشد»!. ومن سابق خبرة «عبدالناصر» فى التعامل مع إرهاب جماعة إخوان الشيطان، فلست أشك للحظة أنه، وهو العليم بغدرهم، والبصير بنزعاتهم الإجرامية، كان سيواجه بحسم كل محاولة للخروج على القانون، وكان سيرد بكل قوة على عمليات القتل والترويع والتفجير والتدمير، التى تتستر بعباءة الدين، وتمولها وتوجهها دول خارجية، وأجهزة استخبارات أجنبية، ومشيخات نفطية تابعة وعميلة. ولست أشك أبداً أنه كان سيرفع مع الرافعين شعارات الثورة على ادعياء الدين، هاتفاً مع الهاتفين: «الشعب يريد إعدام المجرمين»!. ولأنه كان فقيراً وابناً للبسطاء، فقد انحاز منذ اليوم الأول، للناس الطيبة المحرومة، الذين بادلوه حُباً بحب. منحهم أراضى الإقطاع التى صادرها باسم الشعب، وعلمهم بالمجان، وعالجهم دون مقابل، وأمم لهم مصانع الاحتكاريين والمستغلين، ويسّر دخولهم المجالس النيابية، ووضع قيوداً على انفلات الأسعار، ودعم لهم حاجاتهم الضرورية، وأمر بأن تُفتح لهم بوابات المسارح والمكتبات، على مصاريعها، لكى ينهلوا من فيض المعرفة والجمال، بقروش زهيدة. ولا يساورنى أدنى شك، أنه لوكان بيننا، لروَّعَهُ بؤس أحوال فلاحى مصر وعمالها، وموظفيها وفقرائها، الذين يٌعانون مُرَّ المعاناة من انفلات الأسعار.∎