الساحة الواسعة في مواجهة البحر والمتاخمة لمكتبة الإسكندرية . قد تحولت إلي مسرح مكشوف . امتلأت عن آخرها بشبان وفتيات، ويبدو أنني الكهل الوحيد بينهم . أشعر كأنني في مدينة أخري لم أعد أعرفها، أو فقدتها من سنين طويلة . مفاتيح ذاكرتي تدخل بي إلي عوالم عشتها . عندما كنا نسهر في صالات الرقص الشهيرة المنتشرة في أرجاء المدينة، وشباب من الجنسين من كل الأعمار ومختلف الجنسيات، وقد صهرتهم الموسيقي وحولتهم إلي كائنات راقصة من حبور واستبشار . أفقت من ذكرياتي، عندما انفتحت الأبواب وسمح لنا بالدخول، توافدت جموع الشباب، الضحكات علي الوجوه، حتي وإن تنافرت الأزياء فلا تحس باختلاف صارخ فالكل ذاب في هارمونية تجمعهم . ولم يعد يلفت نظري إن كانت الفتيات محجبات أو مرسلات شعورهن يرتدين فساتين قصيرة أو بنطلونات جينز . لا توجد ستارة بين خشبة المسرح والمتفرجين، ثم بدأ دخول أفراد الفرقة الغنائية، يتصرفون ببساطة كأنهم في بيتهم الحقيقي، يتهامسون فيما بينهم، يضبطون آلاتهم، وتنبعث همهمات موسيقية رائعة . وأخيرا يدخل قائد الفرقة حاملا عوده أتأمل الوجه ولا أكاد أصدق . ها هو صديقي القديم الأثير عندي، ينبعث عن غياهب الماضي، الشيء الغريب أن ملامحه لم تغيرها السنين، نفس الابتسامة الطفولية العذبة، العينان المتوهجتان ببريق عطف وتسامح ومودة، وكأن الزمن الذي جمعنا في الماضي نفس الزمن الذي أراه فيه الآن، قامته الشامخة لا تتناسب مع ضحكته الطفولية وصوته الجهوري لم يكن ينطلق إلا في المظاهرات . مع عزفه المنفرد علي العود، تعود إلي شذرات من ذكريات، مبهجة أحيانا . قاتمة أحيانا أخري، ومضات من بروق وظلال. ليالي رأس السنة عندما كنا نحمله علي أكتافنا في محطة الرمل، نردد وراءه في شبه مظاهرة صاخبة، وهو يهتف بكل جدية وحماس. ونحن نردد وراءه: (سبيروسباتس) خان الشعب . فكاهية الهتاف تجعل جموع المحتفلين برأس السنة تضحك من أعماق قلوبها، وهي تعلم أن (سبيروسباتس) هذا هو الخواجة اليوناني صاحب الشركة المنتجة للمياه الغازية، وكأننا نسخر من زمن الشعارات ومساندة كل الثورات . ولكن يبدو أن الفكاهة في الخمسينيات، انقلبت إلي جد لا هزل فيه، فكان صديقي واحدا من القيادات الطلابية التي تزعمت المظاهرات الصاخبة في مارس 1968، وأصبح هتافه مأساويا، منددا صراحة بسقوط القيادات المسئولة عن الهزيمة، ودفع الثمن خمس سنوات قضاها في المعتقل، ولكنه لم يفقد إيمانه بالوطن، ولم تضعف صلابته، وأن أثرت علي صحته، فهاجمه مرض السكر، وأثر علي شرايين قلبه، ولكنها لم تؤثر علي تفاؤله وأمله في المستقبل . وها هو أمامي كأنه العنقاء تنبعث من جديد، يتزعم مجموعة من شباب مثل الورود المتفحتة، تعزف وتغني أغنيات من تأليفهم وتلحينهم. مملوءة بالسخرية اللاذعة من أوضاع مازالت سائدة في الزمن الحالي . بعد انتهاء العرض، وبشوق السنوات الطويلة التي افترقنا فيها، صعدت إلي خشبة المسرح لأعانقه وأحييه، توقعت أن يترك المعجبين والمعجبات ويأخذني بالأحضان والقبلات، رفعت عيني إليه مبتسما، فرد علي بابتسامة عارضة، وقبل أن أقترب منه فوجئت بأصابع رقيقة تلمسني علي كتفي. أستدير بوجهي فأفاجأ بزوجة صديقي تصافحني بحرارة وتقدمني إليه: آدم . ابني البكر أعاود النظر إليه . صورة حية من والده. وكأنه شعاع نابض لنجم لم يعد له وجود