عندما كنت أرى عبدالحليم حافظ لا أرى عينيه وكأنهما مدفونتان تحت حاجبيه الثقيلين، ولكنى كنت عندما أقترب منه أكثر كنت لا أرى أن له حاجبين علي الإطلاق، ولكن هو الظل الغامق تحت الجبهة واختفاء العينين فى هذا التجويف العميق، لذلك خلال فترة تعارفنا الأولى عن طريق صديقه إحسان عبدالقدوس وكنت سعيدا جدا للتعرف على مطرب جديد يقدم نمرة فى نهاية كل سهرة على مسرح الأزبكية وله أغنية واحدة يكررها فى نهاية السهرة «صافينى مرة» إلا أن طريقة مط كلمة «صافينى» جذبت مجموعات كثيرة من المستمعين الشباب وكأنها الدعوة الأولى للحب بين الولد والبنت على أساس الصفاء وهى صفة جميلة مثل الصدق والنقاء والإخلاص. إلا أننى عندما تكررت لقاءاتنا وربما سهراتنا مع رئيس التحرير فى كازينو الجلاء ليالى الصيف غالبا ولا أعرف مدى مشاعره نحوى عندما عرفته ففوجئت بأنه يأتى إلى طاولتى الخشبية المائلة للرسم فى غرفة الرسامين التى تضم أحمد حجازى وجمال كامل وبهجت وصلاح جاهين وصلاح الليثى. كانت دار «روزاليوسف» تنهى مع المساء يوما طويلا مشحونا بالعمل الدائم وتردد عشرات الزوار والحوارات والمناقشات مع دوران صينية القهوة والشاى والليمون على كف عم سيد للبوفيه والصبى الصغير عبدالتواب الذى رسمته بعد ذلك كأهم لوحة فى مشروع نهاية دراسة الفنون الجميلة. فوجئت كل مساء بعد نهاية يوم صاخب للمجلة ودخل رئيس تحريرها ليكتب روايته المسلسلة «النظارة السوداء» و«لا أنام» و«زائرة كل مساء»، هو هذا الشاب القصير الذى يتحنجل فى خطواته ولا يسير بانتظام ينقر باب رئيس التحرير، محبوب القراء فى ذلك الوقت المبكر من منتصف الخمسينيات فيفاجأ ثم يخجل ويعتذر ويغلق بابه ويقول له: خليك اكتب روايتك بهدوء أنا عارف إن السهران الوحيد فى دار روزاليوسف ونحن مازلنا نقترب من منتصف الليل هو الرسام الصغير فى عمرى الرسام جورج. يدخل المطرب الناشئ إلى غرفة الرسامين فى ظلام الصالة بين المكاتب التى ذهب أصحابها إلى بيوتهم وهو يعرف مكانى الوحيد فى ركن على الشمال أرسم تحت أباجورة صغيرة فى ضوء يكفى لرؤية الرسم فقط، والغرفة والدار كلها مظلمة ما عدا ركنى الصغير وغرفة رئيس التحرير. بعد لقاء الأحضان وغفوتى من الرسم الذي استمر فى أبحاثى التشكيلية للعثور على أسلوبى المميز الجديد يقول لى فجأة، عندى خبر حلو وعاوزك تكون أول واحد يسمع اللحن الجديد لأن الرسام لديه دائما تذوق عالٍ لكل أنواع الفنون. اللحن ده أهداه لى اليومين دول محمد عبدالوهاب الذى سمعنى منذ أسبوعين ومازلت أتردد عليه فى الأغنية الجديدة. وراح عبدالحليم حافظ يدندن على خشبة طاولة الرسم القديمة المائلة وأنا أحتضنها وأتكئ عليها بيدى وبكتفى ومازال سن التحبير يكمل رسمى المطلوب تسليمه. صباح اليوم التالى لأبوالعينين سكرتير المجلة الفنى وهو من طلائع خريجى كلية الفنون الجميلة. ويصدح العندليب بصوته الخافت الواصل إلى القلب وكأنه نبض جديد.. نقرة.. ثم نقرة بأصابعه وأنا لا ألتفت إليه كثيرا، ولكنى كلى آذان صاغية إلى صوت جميل فعلا وهو يردد بفرح: توبة.. توبة.. توبة إن كنت أحبك تانى توبة. تركت رسمى على الطاولة واحتضنته مهنئا بفرح أكثر.