(1) كلما مررت في الطريق الرئيسي لأي قرية, لابد وأن أسمع صوتا عاليا يصيح ورائي: معاك جوابات؟ ولما أخفف سرعتي وألتفت, أري قرويا يتطلع الي بوجه ضاحك, يمشي وحده أو يسحب بقرة أو جاموسة. وما أن أعتدل وأبدأ في الابتعاد, حتي يلاحقني نفس الصوت عاليا: اتفضل. كيف يحدث ذلك في القري كلها؟ أسأل سليمان, ويقول: طبعا. (2) كنت سعيدا وأنا أعيد قراءة صور هذه الخطابات التي أرسلتها الي جونيور عن فترة اقامتي بالمحلة الكبري, كنت سعيدا لأنني استعدت صورة الناس والأماكن والكثير من التفاصيل التي كانت غابت. التفاصيل هنا حقيقية لأنني دونتها وقت حدوثها نزولا علي رغبته, وهي عكس الكثير من التفاصيل الأخري التي حكيتها بعيدا عن هذه الخطابات بعدما افترضت أنها حدثت, لكي أرمم فجوات تلك الأيام التي ابتلعها النسيان, حتي أيقظني رحيل توفيق. كثيرا ما أقول لنفسي إن الواحد وقد أوشك علي الانصراف لن يمكنه أن ينسج رقعة متماسكا عن ماضيه إلا عبر خيوط مما حدث وما لم يحدث. (3) جونيور هل تذكر المرأة الشابة التي خرجت لي من بين أعواد الذرة الكثيفة والتي كانت برفقتها البنت الصغيرة؟ أنا لم أمر أبدا بحقل مثله إلا وتمهلت, ما إن أصل الي الموقع الذي قدرت أنهما خرجتا منه, هذه بضفيرتها الطويلة التي كادت تصل الي قدميها, والأخري برسالتها الي الرجل في المحطة, حقول الذرة ضيعتني, لم أعد أعرف خارج أي زمام وعند أي حقل تقابلنا, وأنا الذي فارقتهم مطمئنا الي رؤيتهما تبين لي أن الحقول في هذه القري لا أول لها ولا آخر. ذكراهما تعن بين آن وآخر, أراني واقفا الي جانب الطريق الضيق وكادر الدراجة بين فخذي, استند بقدمي اليمني الي الأرض مائلا ومرفقي علي مقربة من صدر المرأة الشابة الممتلئ تحت طرحتها الخفيفة السوداء, البنت الصغيرة ترفع وجهها المدور وضفيرتها تكاد تلامس الأرض, وأنا ألتفت من جنب الي وجه المرأة الخمري المائل, وذلك الأثر من كحلها المغسول في عينها الكبيرة القريبة تحت حاجبها, والمساحة العارية البضة مابين طرف العين الخارجي ونهاية قوس الحاجب, حيث الثقوب الدقيقة لشعره المنزوع. (4) جاءوا يدعونني للجلوس معهم وأكل البطيخ, وعند باب الحجرة نظروا الي الصور والأوراق المبعثرة علي الكنبة وسألوني متي سوف أعيدها الي الحقيبة حتي يستطيعوا أن ينظفوا الحجرة من أجلي ويرتبوا المكان. هم معذورون بعدما فاتهم أني توقفت عن أخذ الأمور بجدية دون أن أخبرهم بذلك, وأنني كنت قرأت مرة أن أعظم مكافأة يمكنك أن تمنحها لنفسك في نهاية أيامك هي أن تنفض عنك كل المثل العليا التي عشت عبدا لها طوال سنوات عمرك, وأن ترتدي أو لا ترتدي الشبشب والجلباب, أو تكتفي بفانلتك نصف الكم مع سروالك الداخلي وتتجول حرا داخل شقتك بعدما ينصرفون, شأنك في ذلك شأن طائر يحلق أو يجلس يدخن سيجارته بين أغصان شجرة أو سياج, أو مثل سمكة في بحر أو بركة ماء, من دون أن تكون لديك آذان صاغية علي الاطلاق. أنت رجل متعب الآن يمكنك ان تستلقي أينما تشاء وأن تنهض وقتما تشاء, صحيح أن الكبر لم يبلغ بك هذا الحد, ومازلت تشعر أحيانا, رغم مخاوفك, أنك بحال لا بأس بها, ولكن حالك التي لا بأس بها أحيانا يجب أن تكون سرك الصغير, فإذا وجه أحدهم إصبعه الي هذا الأثر الصغير من بقع البطيخ علي صدر جلبابك أو فانلتك البيضاء فابتسم كمن وضعه هناك برغبته, حاذر إذن أن تهتم, اترك أشياءك مبعثرة علي الكنبة كما هي, واعلم أن الدنيا لم تكن أبدا هي الدنيا, وأن الناس لم تكن أبدا هي الناس. وللكلام غالبا, بقية