1 عندما رحل وحيد النقاش ا1937 1971 ب أحد أنجب أبناء جيل الستينيات ومن أكثرهم قيمة, لم أكن أعرف مكان العزاء الذي أقامه الراحل رجاء لشقيقه. أخذني الصديق يوسف القعيد الذي كان يعرف المكان. ولكنه عرج بي إلي شقة المفكر الماركسي الراحل محمود أمين العالم في عمارة إيزيس المواجهة للسفارة الأمريكية بجاردن سيتي لكي يرافقنا إلي هناك. وعنما فتح الباب رحبت بنا السيدة سميرة الكيلاني بينما أسرع إلينا العالم الذي لم أكن رأيته من قبل, وما أن نطق القعيد باسمي حتي صاح: أهلا أهلا. إزيك يا أبو خليل. وهو نطق هذه العبارة بالضغط عليها بطريقة أبناء البلد كما هي في الأفلام أو المسلسلات. عرفت أنه, وقد سمع بي, أراد أن يعالج أية فوارق محتملة بيني وبينه. إلا أنني كنت في هذه الأيام, ومازلت في أغلب الأحوال, قادرا علي تقبل أي طريقة يلتقيني بها أحد, مادامت تخلو من تكلف, ولكن مافعله مفكرنا الكبير جعلني أكون تصورا كاملا عنه, كما أنه خلف أثرا غير طيب في نفسي. ثم لاحظت أثناء تراجعنا أمام الباب لكي ينضم إلينا, رجل غير عابس, وأن له خصلة شعر تميل علي جبهته من الناحية اليمني. ومرت الأيام وصار بيننا قدر كبير من الود الجميل والتحفظ. لم أكن غافلا عن قيمته ولاكيف أنه أحد الأسماء التي تحولت مع الوقت إلي مجموعة من القيم والمعاني التي اكتسبت حياتها المستقلة عن اسم صاحبها. كان كتب عن عملي دراسة طيبة رأيتها صدفة بعد أعوام في إحدي المطبوعات العربية ولم يحدث أن نبهني إليها أو حدثني أبدا عنها. هكذا ظللنا نلتقي في مناسبات متباعدة وأنا ألاحظ كيف أن خصلة شعره راحت تتضاءل مع السنين حتي لم يبق منها إلا القليل, وأقسم أنني رأيتها بعد ما صارت شعرتين, ورحت أتحدث إليه وأنا أتاملهما وأفكر أنه بلل إصبعيه وضمهما إلي بعضهما وتركهما مثل وجود رمزي لخصلة مالت زمنا علي جبهته من الناحية اليمني. هكذا هو محمود أمين العالم حتي مات. 2 كثيرا ماكنت أصادف صورتها علي صفحات الجرائد والمجلات. زمان وكانت عيناي تذهبان مباشرة إلي حاجبيها الرفيعين المقوسين عاليا أكثر من أي حاجبين لامرأة أخري. كنت أتأمل المساحة الممتلئة قليلا بين هذا الحاجب بقوسه النحيل الممشوق العالي غير المألوف وأشعر بنفسي مفتونا وممتلئا بالرغبة, كان اسمها جاذبية صدقي ا1920 2001 ب وكانت كاتبة, وتقدمت الأيام وعرفت عنها وسمعت بأعمالها: مجموعة من الروايات مثل االبلدي يؤكلب و امملكة اللهب و اأهل السيدةب و االحبب و ابوابة المتوليب وغيرها, كما كتبت دراسات في المسرح وأعمالا للأطفال وترجمت كتبا. وأنها تتلمذت علي أيدي العقاد, وأن هذه التلمذة أضرتها. لم أقرأ لها شيئا واكتفيت بحاجبيها يطالعاني بين آن وآخر ثم اختفت. بعد ذلك صادفتني حواجب أخري علي نفس الشاكلة المدهشة, أذكر منها حاجبي السيدة درية شفيق وأخريات أتحرج الآن من ذكرها. إلا أن حاجبيها ظلا يحتلان مكانيهما عندي. كانا أقدم مراجعي في هذا الشأن. بعد سنوات طوال, كنت أمر علي رصيف مكتب بريد الكيت كات وأقترب من مدخله المفتوح علي الميدان. في الناحية اليسري من المدخل المزدحم بأرامل ونساء يرتدين السواد وعجائز يمدون أيديهم إلي شبابيك صرف المعاشات, وفي الطرقة الضيقة وراء هؤلاء كانت دكة خشبية مركونة إلي الجدار, والتقطت عيني حاجبين في وجه السيدة التي تجلس في طرف هذه الدكة القريب وتوقفت.صارت عجوزا تمد ساقيها المتورمتين في جوربين ثقيلين شبه بيضاء, وإلي جوارها عكازان من الألومونيا لهما حلقتان مفتوحتان ومركونتان إلي الجدار, تراجعت إلي حيث أتيت, ثم عدت إلي المدخل المفتوح وتلكأت. كانت كما في الصور القديمة تماما, غاض لون الحاجبين في الوجه شبه المدور الذابل, إلا أنهما المعجبان بقوسيهما الرشيق العالي كأنهما ينهضان بكامل جسدها الآيل للسقوط. كانت جاذبية صدقي وكانت التقت عينانا وهي تريح ظهرها إلي الجدار