لمتابعة انتظام الدراسة.. محافظ شمال سيناء يتفقد «جرادة» بالشيخ زويد    رئيس الوزراء من الأقصر: الدولة تهتم بالتوسع في الكليات التكنولوجية.. صور    شيخ الأزهر يستقبل رئيس معهد «ديا ماليلا» الإندونيسي ووفد طلاب «المعايشة اللغوية»    وزيرة التخطيط تعقد جلسة مباحثات مع نائب رئيس وزراء رومانيا    مدبولى: الهجرة غير الشرعية قضية مشتركة ولا يمكن لدولة مواجهتها بمفردها    استخراج 2218 شهادة استبيان تراخيص بالشرقية    خبراء الضرائب: 6 تعهدات من وزير المالية لبدء مرحلة جديدة مع الممولين    عضو ب«النواب»: استمرار الدولة في تعمير سيناء دليل على تعزيز التنمية المستدامة    إعصار ميلتون.. انقطاع الكهرباء عن 2 مليون مواطن بولاية فلوريدا (فيديو)    أمجد الشوا: غزة تخوض معركة من أجل البقاء على قيد الحياة    التليفزيون اللبنانى: التصدى لقوة إسرائيلية توغلت لرأس الناقورة وتدمير آليتين    تريزيجيه يحضر مع حسام حسن المؤتمر الصحفي لمباراة موريتانيا    "الأرصاد السعودية" تحذر: أمطار وسيول ورياح شديدة ب 8 مناطق بينها مكة والمدينة    مدير التنبؤات الجوية يكشف تفاصيل حالة الطقس.. ويوجه نصائح هامة    مواصفة امتحان الشهر للصفين الأول والثانى الثانوى للعام الدراسى 2025    وزارة الداخلية تقرر رد الجنسية المصرية ل 24 مواطن    الكاتبة الكورية هان كانج تفوز بجائزة نوبل للآداب    ناقد فنى: محمد منير أثر فى مختلف الأجيال..وأغانيه تتميز بصدق المشاعر    الحلقة 20 من مسلسل برغم القانون.. الشرطة تُلقي القبض على أكرم    المنظمات الفلسطينية: حجم المساعدات المقدمة لغزة لا يتجاوز 7% من الاحتياجات    الثقافة تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر بقصر روض الفرج    يوم الجمعة: يوم البركة واستجابة الدعاء وراحة القلوب    محافظ أسيوط يتفقد مستشفى الإيمان العام فى جولة ليلية مفاجئة    إجراء 1274 جراحة مجانية ضمن مبادرة "القضاء على قوائم الانتظار" بالمنيا    "شعار رسمي".. متحدث الزمالك يكشف مفاجأة بشأن عبارة أكبر قلعة رياضية في مصر    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبى جرائم الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبى    توجيه جديد من وزير الإسكان بشأن موعد تسليم شقق سكن لكل المصريين    الشريعي يكشف سبب عدم انتقال كالوشا ل الزمالك    الكشف عن قائد منتخب إنجلترا في غياب هاري كين    محافظ الإسماعيلية: تطور ملحوظ في الخدمات الطبية بمركز المستقبل    حفل استقبال الطلاب الجدد بكلية علوم ذوي الاحتياجات الخاصة جامعة بني سويف    لحاملى ال«Fan ID».. «مصيلحى» يخصص حافلات مجانية لنقل جماهير الاسكندرية لمؤازرة فريقها فى البطولة العربية للسلة ببرج العرب    إعلامي يكشف عن النادي الجديد للقندوسي بعد قرار الأهلي ببيعه    ضبط عنصرين إجراميين في أسيوط بتهمة الاتجار بالأسلحة النارية والذخائر    «الداخلية»: تحرير 698 مخالفة عدم ارتداء خوذة وسحب 1457 رخصة لعدم وجود «الملصق الإلكتروني»    علوم حلوان الأهلية تختتم أسبوعها التعريفي للطلاب الجدد    جيش الاحتلال يعلن اعتراض مسيرة مفخخة أطلقت من غزة نحو إسرائيل    مصرع طفل اختل توازنه وسقط من الطابق الخامس بالعجوزة    المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية: موقف إيران من تصنيع السلاح النووي ثابت ولم يتغير    نائب وزير الإسكان يلتقي ممثلي إحدى الشركات العالمية المتخصصة في تنفيذ وإدارة المرافق    وفاة زوجة الدكتور حسام موافي.. موعد ومكان الجنازة    رئيس هيئة الرعاية الصحية: الانتهاء من إعداد أكثر من 450 بروتوكولًا    جدول مباريات اليوم.. يد الزمالك في إفريقيا.. دوري السيدات.. ومجموعة مصر    السماحة في البيع والشراء موضوع خطبة الجمعة القادمة    نائب وزير التعليم يكشف تفاصيل مسابقات تعيين معلمي الحصص في المدارس    سياسيون: الحوار الوطني مناخ صحي ديمقراطي تشهده مصر تحت رعاية الرئيس السيسي    «القاهرة الإخبارية»: إسرائيل تواصل القصف العنيف على قطاع غزة    أبومسلم: البعض يريد صناعة حالة جدل.. الأهلي والزمالك هما أكبر ناديين في مصر    على مدار يومين.. تنظيم قافلة طبية مجانية بقرية المصيلحة فى المنوفية    لإسكات الأصوات.. جيش الاحتلال يتعمد استهداف الصحفيين الفلسطينيين    مدحت صالح نجم افتتاح مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية ال32    تراجع كبير في أسعار مواد البناء: انفراجة جديدة في سوق الحديد والأسمنت    حكم الالتفات في الصلاة.. الإفتاء توضح    ذكرى نصر أكتوبر| «الشهيد الحي»: فقدت قدماي وذراعي وطلبت الرجوع للجبهة    الأمم المتحدة تحذر من هشاشة الوضع السياسي في ليبيا وتدعو لاتخاذ خطوات عاجلة    بسبب «النسيان أو النوم».. حكم قضاء الصلاة الفائتة    بعضهم كرماء وطيبون.. تعرف على أكثر 3 أبراج عنفًا    علي جمعة يكشف عن شرط قبول الصلاة على النبي وأفضل صيغة ترددها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعتذار متأخر لرجل محترم
نشر في صباح الخير يوم 06 - 04 - 2010

أعتذر مقدما عن خيالي الغريب الذي يدهمني كثيرا هذه الأيام.. يبدأ هذا الخيال من رؤيتي لعدد محدود من أصحاب الملابس الشديدة الأناقة التي تحمل أسماء محلات عالمية تزدحم بها ثلاثة شوارع أولها في روما واسمه فيافينتو، وثانيها في باريس واسمه فوبور سان أونير، وثالثها في نيويورك واسمه الشارع الخامس، وعندما تدخل محلا من تلك المحلات ستجد الأسعار وهي ترتفع عن مستوي خيالك..
لكن أصحاب هذه الملابس هم من يقومون في خيالي بمحاولة نزع الخريطة المصرية أو العربية من موقعها في قارتي آسيا وأفريقيا كي يكرمشوا تلك الخريطة في أيديهم ويريدون تحويلها إلي عملات قابلة للإيداع في بنوك سويسرا أو لندن أو باريس أو نيويورك.. ولكن الخريطة المصرية والعربية تقاوم الكرمشة، ويمكنك أن تلحظ تلك المقاومة في شكل البطاطين المتراصة أمام مجلسي الشعب والشوري والتي يتجمع فيها بشر لا يهتمون لا بالدكتور البرادعي ولا بالانتخابات القادمة ولا بنواب القمار أو نواب سميحة أو نواب المحظورة، ولكن يهمهم أن يقولوا لكل من آمن بسياسة الخصخصة «والله حرام عليكم اللي عملتوه فينا»، ولكن من آمنوا بسياسة الخصخصة وفتح أبواب الاقتصاد المصري نسوا أنهم فعلوا ذلك متجاهلين ما دفعه المصريون العاديون في عمر أفندي مثلا من أيام أن كان مجرد محلين اثنين، يملكهما خواجة اسمه أورزدي باك، إلي أن صار شركة متعددة الفروع في أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها، ليأتي رجل سعودي يشتريها ويوقع عقودا يعلم أنه سينقضها عن طريق دهاليز القوانين، ثم يترك العاملين بعمر أفندي في مهب رياح المعاش المبكر، ثم يجد من يدافع عنه، علي الرغم من أن عمال عمر أفندي لو انتبهوا إلي إنسانية الملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين، وكتبوا له شكوي جماعية، لجاء بمن اشتري عمر أفندي وأمره بأن يعيد الشركة كلها إلي الحكومة حتي لا يتحمل مواطن سعودي ذنب تشريد وتجويع_ ولا أقول نهب _ عرق وجهد عشرات السنين من عشرات المئات من العمال، ولسوف يفعل خادم الحرمين ذلك مادامت دهاليز حكومتنا المحروسة لا تؤمن بأن من حق «حمادة» وهو الطفل المصري الفقير في بيجامة تسترته وحذاء يمشي به من إنتاج القطاع العام، هذا القطاع الذي صان كرامة مصر فدخلت أكبر حرب صانت كرامة الأمة العربية من محيطها إلي خليجها، ولكن جاء أبناء مدرسة شيكاغو الإقتصادية المؤمنين بأن العولمة هي الكنز الذي لايفني، وأن استنزاف المصريين حق، وقد استطاع أبناء تلك المدرسة التغلغل في الاقتصاد المصري ليتم تفجير مصانعه من داخلها، لتتحول إلي خردة، ثم تتلطف السيدة عائشة عبدالهادي وزيرة العمل بعمال تلك المصانع، فتتعطف عليهم بمنحهم بعضا من مدخرات جمعوها هم عبر السنوات، فتبدو السيدة كمحسنة كريمة، بينما تفرح تلك القلة التي تتجمع في أياديها مفاتيح الثروة، ويتجهون إلي الثلاثة شوارع المذكورة في روما أو باريس أو نيويورك، ليشتروا ملابسهم، ويعودوا إلي الداخل كي يقيموا أفراحهم وليالي ملاحهم باستيراد الطعام من باريس ولندن وروما، ولا مانع عندهم بعد ذلك من مناغاة كلمتي «الديمقراطية» أو «الحرية» دون أن يلتفتوا إلي أن الكلمتين لعبتا في أواخر القرن العشرين دور أكبر عاهرتين علي مر التاريخ، ومن يرغب في معرفة القواد المستفيد من عرق هاتين العاهرتين فلينظر إلي قاعدة العديد الموجودة بجانب قناة الجزيرة، أو قاعدة بجرام العسكرية التي تحرس تجارة المخدرات التي يقوم بزراعتها من يدعون أنهم خصوم، وأعني بن لادن وجماعته وكرزاي وحكومته، فقد كانت هناك ديمقراطية وصناديق انتخابات، تماما كما كان في العراق ديمقراطية وصناديق انتخابات أطل منها شبح الخوميني وهو يقول للعراقيين: «قلت لكم وأنا أوقع السلام مع صدام حسين أني أبلع العلقم، وسأذيقكم إياه بعد سنوات».
كل تلك الأفكار تمر بي كل يوم، وواساني فيها كتاب وقع في يدي كتابا بعنوان «محمد سيد أحمد.. لمحات من حياة غنية» قامت بإعداده وتحريره الأستاذة مني عبد العظيم أنيس مديرة تحرير الأهرام ويكلي، وقدم له الأستاذ العلامة في التاريخ المصري والعربي محمد حسنين هيكل، هذا الذي يختلف معه من شاء ويؤيده من شاء، ولكني لن أنسي أبدا ملامح أستاذي فتحي غانم الروائي الشهير وأحد المؤسسين لهذه المطبوعة صباح الخير، وهو من زامل محمد حسنين هيكل لسنوات بمؤسسة أخبار اليوم، سألت فتحي غانم ذات يوم ونحن جلوس في حجرة الحاجة سعاد رضا العضو المنتدب السابق ل«روز اليوسف» «بما أنك عاصرت وزاملت محمد حسنين هيكل قل لي ما هو مفتاحه بالضبط، وكيف بني تلك المكانة المرتفعة عن كل أبناء جيله؟» أجابني فتحي غانم بمودة الأستاذ للتلميذ المحب: «مفتاحه كلمة واحدة هي العمل، فحياته كلها مرصودة لعمله الصحفي، وترفيهه مرصود حتي لعمله، وكان من المستحيل ألا يحقق ما وصل إليه»، فقلت لأستاذي فتحي غانم «وخسرنا نحن بإنغماسه في السياسة روائي نادر الوجود»، وأخذ أستاذي كلماتي بمحبة لمدي تقديري لاتساع قدرات هذا العملاق الذي مهما ترصده خصومه حتي يثبت من جديد جدارته بالرؤية، وعندما تتعدد الرؤي فالمستفيد أخيرا هو القارئ.
وكل ما فات هو مقدمة لاعتذار كان يجب أن يسمعه مني محمد سيد أحمد وهو حي، ولكنه للأسف مضي إلي النهاية، وكلمات الأستاذ هيكل في مقدمته للكتاب تصلح مقدمة لهذا الاعتذار المتأخر، حيث يقول: «إن دور كل كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعا في المستقبل، وليس كفنا في الظلمات. ثم دعوني _ مشيرا إلي نجم يلمع بعيدا عند حافة الأفق_ أقول له معكم: تحرك في مدارك فنحن نراك.. وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك».
فماذا في كتاب محمد سيد أحمد؟
من البداية أعترف بصعوبة تلخيص الكتاب كاملا، فمن ذا الذي يستطيع تلخيص رحلة كائن صادق مع نفسه، قد ينتقل من موقف إلي ما تخيل أنه موقف مضاد ولكنه ليس كذلك، بل هي المراجعة وممارسة الصدق مع النفس ومع الفكرة والموقف. من السهل أن نقول أنه سليل عائلة ثرية، ومن السهل أيضا أن نروي كيف اعتنق أفكار الماركسية أثناء دراسته الثانوية في المدرسة الفرنسية ببورسعيد أثناء تولي والده منصب المحافظ لها في عام 1946، ومن السهل أن نراه مؤمنا مضحيا بكل ما يحرص عليه أي كائن من أهل الإيمان، منذ بداية تاريخ فكرة الإيمان علي الأرض، فالمؤمن حقا هو من يربط إيمانه بالعمل، وهو في نفس الوقت القادر علي نقد نفسه وظروفه ومراحل نموه ومسار اتجاهاته، فهذا المؤمن بالماركسية وابن الذوات يهب حياته كلها من أجل العدالة والحرية معا. وهو في نفس الوقت رفيق أيام لأساتذتي منهم من أحببتهم علي الرغم من أني لم أكن ماركسيا في يوم من الأيام، ومن الماركسيين من نظرت إليهم نظرتي إلي أهل الجمود من السلفيين أتباع جماعة الإخوان المسلمين، فالجمود أيضا واحد في كل المذاهب والإتجاهات حيث يفترض الجامد فكريا أنه وحده مالك الحقيقة المطلقة، وفي يديه موازين الخير والعدل وعليك أن تسلمه مخك ليجعله كعجينة الفلافل يلقيه في زيت جموده ليقدمه لك مخا غير صالح للاستخدام الآدمي.
ولأني لم أعرف محمد سيد أحمد في ردهات روز اليوسف وقت ازدحام أروقتها بالماركسيين من أهل الجمود أو أهل الإيمان بأن الإنسان حر حقا وصدقا مثل الفنان حسن فؤاد مؤسس شكل هذه المطبوعة، لذلك لم تتح لي فرصة ملاقاة الرجل أو التعرف عليه عن قرب. وعندما كنت أراه في لقاءات السيد رئيس الجمهورية مع الأدباء والمثقفين بمعرض الكتاب، كنت أتوقف عند الإعجاب الشخصي الذي يكنه الرئيس مبارك لهذا المفكر؛ وهو من كان يسمع له لآخر كلمة يقولها، ويسأل عنه إن تخلف عن اللقاء.
وتدور الأيام لأجد اسمه مرة في قائمة من يؤيدون اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، ثم أقرأ له نقدا لتلك الإتفاقية؛ فأري في كلماته عميق احترام للدم الفلسطيني الذي ما زال يراق. ولكني لا أفهم لماذا وافق أولا ثم اعترض ثانيا؟! ولأني واحد ممن تستبد بهم حيرة هائلة من تجمد فكرة القومية العربية تلك التي بزغت كضوء ساطع يملك إرادة لا قبل لأحد علي مقاومتها في عام 1956 أثناء مواجهة مصر للعدوان الثلاثي عليها، ثم انتقالها إلي مرحلة الحلم بالوحدة العربية التي تحققت علي الورق بين مصر وسوريا في عام 1958 ثم تكسرت علي ضوء توهج شخصية عبد الناصر التي لا تقبل معارضة لها، ثم اتجهت مصر من بعد ذلك إلي تصنيع نفسها وبناء سدها العالي، ولم تكن إسرائيل أو الولايات المتحدة التي تري مصر حجر عثرة في سيادتها علي الشرق الأوسط، لم تكن كل من الدولتين تخشيان شيئا إلا ما كان يحلم به المصريون مع جمال عبد الناصر وهو بناء خطة تنمية توفر انتاجا وتزرع أرضا وتعلم الأبناء.. ومازالت خطة التنمية الأولي في عهد عبد الناصر هي العلامة البازغة علي أن عائدها كان يزيد علي ستة بالمائة تم توزيع العائد منها علي مجموع المصريين، ومهما قيل عن المعتقلات أو السجون أو التعذيب، فكل تلك حكايات تمس فئة تقل عن نصف بالمائة من المصريين، ومن هذا النصف في المائة من تزاوج مع بعض ممن عملوا مع جمال عبد الناصر وصاروا قططا سمانا ثم حيتانا، ثم ديناصورات يتم تحريك أهوائهم عبر قنوات إعلامية في عصر شديد الإرباك، بينما يتم عصر مجموع المصريين في الخريطة التي تحاول تلك الديناصورات كرمشتها وتحويل سكانها إلي مجرد عجين، بينما تمشي الديناصورات في الثلاثة شوارع التي حكيت عنها «فيا فينتو» بروما، وفوبور سان أونير بباريس، والشارع الخامس في نيويورك، لشراء ما يحتاجون من ملابس، ويضاربون في بورصات العالم، بينما يترنح عدد لا بأس به من المصريين أمام مجلسي الشعب والشوري مطالبين بالحد الأدني من الكفاف.. ثم يسمعون عن نائب القمار وتهريب المحمول وأكياس الدم الملوثة، وتجارة الأراضي غير المشروعة، وتحزيم العاصمة لا بالعشوائيات فقط، ولكن بشركات عالمية لجمع القمامة تحزم بدورها محافظتي القاهرة والجيزة في أكوام من القمامة، ليقال أن تلك الشركات عالمية ويمكنها أن ترفع علينا قضايا تحكيم أمام محكمة البنك الدولي، كما فعل سياج الإيطالي الذي أراد أن يبيع جزءًا من طابا للإسرائيليين، متناسيا أن طابا قد تم تحريرها بشق الأنفس بعد مسلسل حرب منتصرة في أكتوبر ثم حرب قانونية عبر اتفاقات دولية، فكأن شركات الزبالة قد تحصنت بإرادة البنك الدولي لتكيل لنا وبالمبالغ المدفوعة شهريا علي فاتورة الكهرباء إحساسا بالمهانة وسط أكوام من الصاج المتحرك الذي تنتجه الديناصورات التي لم تصلح النقل العام، ثم تعايرنا الحكومة بأنها تدعم البنزين وتبيعه لنا بأرخص من سعره العالمي، متناسية أنها كان يجب أن تخطط لمواصلات أدمية لا عشوائية مثل الميكروباصات التي تغتال كل يوم فوق ما نتخيل.
أسأل نفسي وما علاقة كل ما أكتبه في تلك السطور بما جاء في الكتاب التذكاري الذي أصدرته دار الشروق عن محمد سيد أحمد؟
فأجيب : أين لنا برجل يمكن أن يجد علي لسان زوجته بعد رحيله مثلما قالت السيدة مايسة طلعت: «كان بالتأكيد عظيما من حيث اتساقه مع مبادئه الشخصية وتواضعه وروحه الكريمة.. وعلي الرغم من تمتعه بذكاء هائل فإنه مع ذلك متحررا من المكر والخداع، بل محتفظا ببراءة شديدة تشبه براءة الطفل».
وأين لنا برجل يمكن أن يكتب عنه أنور عبد الملك هذا الفيلسوف العاشق لمصر، سواء أيام منفاه في باريس أو في أيام حياته بالقاهرة بعد أن عاد إليها كاتبا بالأهرام، وهو من زامل محمد سيد أحمد في الإيمان بالاشتراكية، ثم اتسعت رؤية كل منهما لتري العالم من منظور أكثر اتساعا، فيقول عن «وظل محمد سيد أحمد مخلصا لما كنا نحلم به في شبابنا، وهو أن يرث ثروة البلاد شعب مصر لا الانتهازيون الذين لم يملوا أبدا من تكرار شعار «أنا روما.. ورما أنا».. ظل محمد سيد أحمد ولأكثر من نصف قرن يكافح بالسلاح الوحيد المتاح لديه: «القلم» وفي مواجهة الصعاب كافة كان يرفع شعارات الأخلاق والوطنية والإخلاص والاستقامة والتحضر».
ومن أين لنا برجل يكتب عنه اثنان من زملائه يكتبان بلسان واحد تلك الكلمات «كان من السباقين إلي الإحساس بمشاكل المستقبل، والتفكير فيها وبلورتها ولفت النظر إليها والبحث عن حل لها إن أمكن ذلك.. وكان أول من لفت نظرنا إلي مشكلة المياه وما سينتج عنها من نقص وغلو المواد الغذائية.. ونعترف أننا استمعنا له وقتها ونحن نري أنه يبالغ في تقديره للمشكلة.. وسألناه أثناء لقاء معه عما إذا كان يبالغ كتلك التيارات المزعجة التي لا تكف عن دق ناقوس الخطر في كل المجالات وتهدد البشرية بأسوأ مصير، حتي أصبحت تكاد تبدو مضحكة. فابتسم ابتسامة طيبة وأكد لنا أن الوضع أخطر مما نتصور».
أين لنا برجل يكتب عنه أيرك رولو الدارس الفرنسي لجذور المشكلات العربية واليهودي ذو الجذور المصرية، ومن قاد صحيفة الموند بكل ثرائها التاريخي، فيقول عن محمد سيد أحمد: «ما من صديق أو خصم يشك في إخلاص محمد سيد أحمد لما يؤمن به، فكل كتاباته شاهد علي مناهضته للصهيونية وكراهيته للسياسة العنصرية التي تمارسها إسرائيل، وتضامنه غير المشروط مع الفلسطينيين سواء أكانوا يعيشون في ظل الاحتلال أو كانوا من مواطني الدولة اليهودية وقد ظلمه من أتهموه بأنه من أنصار التطبيع».
ومن هو القادر علي أن ينال عمق بصيرة محمد سيد أحمد حين رأي عبر سكوت المدافع بعد حرب أكتوبر بشائر اتفاقية السلام بما حملته علي الخريطة العربية من عواصف، ثم يري من بعد ذلك كيف تحول السلام إلي سراب، كما جاء في كتاب له يحمل هذا الاسم؟
لا أظن أن كتابا استهواني لنقد كل أوجه الحياة والرغبة في إعادة ترتيبها مثل هذا الكتاب الذي أرجو أن ينال حظه من الانتشار، فهو كتاب يشرح لنا فن كراهية الجمود، وكيف يمكن للإنسان أن ينقد نفسه ولا يفقد قيمة الجوهر الذي يدافع عنه مثلما فعل محمد سيد أحمد.
أعترف أني رأيت في جراءته حين قال: إن الماركسية بتنظيماتها المختلفة في مصر بدأت يهودية، ثم تحولت إلي عربية بعد العدوان الواضح من إسرائيل علي مصر عام ,1956. وأعترف أني ضحكت حين قرأت اسم واحد من كبار أُجلهم إلي حد القداسة هو الشاعر فؤاد حداد الذي كان ضمن من اعتقلهم جمال عبد الناصر في أول يناير 1959 وهو من زاملنا هنا في صباح الخير، وهو من أحب جمال عبد الناصر بغير حد.. وأغلب الظن أن جمال عبد الناصر قد عض أصابع الندم علي اعتقال من هم علي إيمان محمد سيد أحمد أو فؤاد حداد بفكرة العدالة، ولابد أن هذا الندم قد غمر جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو، فقد كانوا هم القادرون علي أن يشاركوه معاركه كأوائل من يملكون التضحية وآخر من يبحثون عن الاستفادة.
ولا توجد كلمات أشكر بها محررة الكتاب ومن أعدته وهي السيدة مني عبد العظيم أنيس ابنة أستاذ الرياضيات الذي ترك لندن وهو الأستاذ بأرقي جامعاتها حين هاجمت بريطانيا مصر في عدوان 1956- وجاء ليتم اعتقاله في عام 1959- وهو من لم يقبل علي منصب، وصاحب الرفض الشهير لمطلب الرئيس السادات كي يعطي درسا خصوصيا لابنه جمال، وكان سبب الرفض هو أن عبد العظيم أنيس كان موكولا له كأستاذ جامعي أن يضع امتحان الثانوية العامة التي طلبت فيها عائلة السادات درسا لنجله جمال فيها.
وكثيرا ما كنت أعاتب د. عبدالعظيم في أي لقاء أراه فيه طالبا إليه وضع كتاب يبسط الرياضيات أمام عموم المصريين الذين يجهلون أن الموسيقي عبارة عن رياضة وأن الشعر رياضة، وأن كلمات الأغاني رياضة، وأن مقاييس الملابس رياضة.
ولكن بما أن عبد العظيم أنيس قد رحل، وبما أن مني ابنته قامت بتصميم كتاب راق ومحترم يوجز حياة محمد سيد أحمد الكاتب والمناضل المحترم، وكان هو واحدا من أبرز العقول الرياضية المستوعبة لأعقد ما في الرياضيات فضلا عن دراسته للحقوق، وبما أن أبناءه طارق وعمرو سيد أحمد من أساتذة الجامعة وهما البارعان في الرياضة، بما أن الأمر كذلك فلماذا لا يؤلف الإثنان كتابا أو سلسلة كتب يبسطان فيها الرياضيات للناس العاديين ؟
هذا مجرد رجاء.
وطبعا لا يمكن أن أنهي المقال دون أن أقول لإبراهيم المعلم ناشر الكتاب: «أعلم أنك تختلف في أفكارك عن محمد سيد أحمد، ولكن الأمر المؤكد أنك تؤمن معي بأنه جدير بكل احترام.. وعن نفسي كنت أتمني أن أجلس إليه في حياته لأعرفه أكثر.. وما أكثر الكبار الذين يغادرون ولا نملك فرصة للتعرف عليهم إلا بعد الرحيل فشكرا لك أيها الصديق الذي أعدت تعريفي برجل أعطي كل الإخلاص دون أن يسأل عن ثمن».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.