مما لا شك فيه أن حالة التفسخ التى تعيشها الدولة الآن تجعلنا أمام خيارات صعبة ومستحكمة.. تجعلنا نبحث عن حلول أفضل للمستقبل.. إلا أننا للأسف نجد أنفسنا أمام خيارات أحلاها مر.. وعلينا أن نقبلها ونرضى بها.. لأن الخيارات الأخرى أمر.. وأسوأ. والحقيقة أننا أيام الثورة وبعد 11 فبراير كان سقف مطالب الثورة يعلو ويعلو حتى تتحقق للثورة أهدافها.. وكانت السلطة الحاكمة التى تدير شئون البلاد تستجيب رويدا رويدا لهذه المطالب .. وكان أهم هذه الاستجابات يتمثل فى اختيار رئيس الوزراء من ميدان التحرير وكذلك الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وأيضا إحالة رموز النظام السابق وعلى رأسهم مبارك وأسرته إلى المحاكمات بتهمة الإفساد والفساد.. ورغم ذلك ولتوالى الأحداث والأزمات المفتعلة وغير المفتعلة المتعاقبة فإن الجدول الزمنى لتسليم السلطة تأخر فعليا عن الستة أشهر التى حددها المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى بياناته الأولى وبدلا من أن يتم نقل السلطة إلى سلطة مدنية خلال ستة أشهر.. أصبحنا نتحدث عن فترة انتقالية تستمر عامين من تاريخ التنحى وتولى الجيش إدارة البلاد.. وفترة العامين فعليا وعلى الواقع العملى تكون منطقية وبحسبة بسيطة سنجد أن الجدول الزمنى يبدأ بالانتخابات البرلمانية التى تنتهى فى يناير 2012 ثم تأتى بعد ذلك انتخابات مجلس الشورى التى تنتهى فى مارس أو أبريل 2012 ثم يعقب ذلك انتخاب الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد وهذه المرحلة ستأخذ شهرين كحد أقصى ثم يتم انعقاد هذه الجمعية لوضع الدستور الجديد ويطرح للاستفتاء والتصويت عليه ونكون بذلك قد دخلنا فى الربع الأخير لعام 2012 وأخيرا يكون فتح باب الترشيح للرئاسة والذى لن يتم قبل مارس 2013. إذن الجدول الزمنى للمرحلة الانتقالية هو جدول زمنى منطقى للغاية. وكان اللواء محمد العصار فى حواره مع منى الشاذلى وإبراهيم عيسى قبل أسبوعين محددا ومنطقيا فى أن الموعد الذى تحدد لنقل السلطة هو مارس 2013، وهو ما يعنى أن المجلس الأعلى مستمر فى إدارة شئون البلاد وحتى هذا التاريخ وهو موعد انتخاب الرئيس الجديد اللهم إلا إذا كانت هناك سيناريوهات أخرى فرضتها الأحداث المتتالية والمتعاقبة والأزمات التى تتغير بين الحين والآخر. بالطبع هذا السيناريو والجدول الزمنى لايعجب القوى السياسية المختلفة ورموز الأحزاب الجديدة والقديمة.. وأيضا مرشحى الرئاسة.. وكلهم يحلمون بنقل السلطة سريعا ليأخذ كل واحد منهم نصيبه من الكعكة سواء من قاموا بالثورة فعليا أو من ركبوا موجة الثورة وتصدروا الساحة السياسية الآن وعلى رأس هؤلاء وهؤلاء الإخوان والسلفيون وهما القوى الجديدة على الساحة. والحقيقة أنه دار حوار بينى وبين أحد المرشحين المحتملين للرئاسة فى جلسة جمعتنا مع بعض من زملاء المهنة.. ورموز العمل السياسى.. وأكد المرشح أنه حاليا يتمنى أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب لأن المدة على انتخابات الرئاسة طالت.. ومش عارفين إذا كانت ستتم أم لا؟! هو بالفعل كذلك.. إن من يتفحص ويتعمق فى المشهد السياسى للأوضاع التى تمر بنا يؤكد أننا أمام خيارات صعبة.. وسيئة أحلاها مر.. إننا أصبحنا مقيدين بشدة فى اختياراتنا.. وأن سقف مطالبنا ينخفض رويدا رويدا بما يؤكد أن الثورة ترجع للخلف بدلا من أن تتقدم للأمام. فالثورة قامت لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإنهاء الدولة البوليسية التى كانت تحكمنا.. ورويدا رويدا تراجعت مطالبنا هذه ليكون الأمن والاستقرار مقدمين على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أيضا كانت مطالبنا الأساسية هى ضمان مدنية الدولة فوجدنا أنفسنا نسير فى اتجاه خطر وهو الدولة الدينية وراجعوا الأحداث الأخيرة التى أشعلت الفتنة بين الأقباط والمسلمين ومحاولة استحواذ السلفيين والإخوان على الساحة السياسية.. وعلى النقابات وعلى المؤسسات الأخرى لنجد أنفسنا أمام خيارين أيضا أحلاهما مر.. فالإخوان والسلفيون مرجعيتهما الدولة الدينية.. على حساب الدولة المدنية.. ونحن كنا نرى الإخوان فزاعة تهدد مدنية الدولة فإذا بنا أمام فزاعة أخرى أشد وأصعب وأكثر تطرفا وهم السلفيون.. فإما أن نقبل بالإخوان الأقل تشددا وتطرفا.. وإما أن نقبل بالسلفيين الأشد تطرفا.. والاثنان كلاهما مر.. ويهددان مدنية الدولة.. لكن أحلى المر هو الإخوان بالطبع.. شوفوا إلى أى مدى تتراجع خياراتنا وأهدافنا. النقطة الأخيرة المهمة والفاصلة إما أن نقبل بهذه الفوضى وبهذه الأخطار التى تهدد الدولة، وإما أن يستمر حكم العسكر وتطول الفترة الانتقالية.. فكل الأمور التى تسيطر على الساحة الآن تهدد بحالة من الفوضى.. والانتخابات البرلمانية القادمة ستشهد مسرحا من الفوضى لا مثيل له رغم غياب التزوير واللعب فى الصناديق على المكشوف.. إلا أننا فى النهاية سنجد أنفسنا مطالبين بتدخل المجلس الأعلى لإحكام قبضته أكثر وأكثر على الأمور داخل البلاد. والحقيقة أن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قد عبر بصراحة عما يجيش فى صدور الناس فى الفترة الأخيرة وذلك فى حواره الأخير مع «الجزيرة» ونشرته الصحف المصرية.. وأكد هيكل فى حواره أنه لايريد للجيش أن يحكم.. لأن هذه ليست وظيفته.. لكن ليس هناك تخوف إذا اقتضت الظروف ذلك، أيضا إنه اقترح سلفا أن يصبح المشير طنطاوى رئيسا للدولة وليس رئيسا للجمهورية لوضع مؤقت إلى جانب مجلس أمناء الدولة والدستور.. طنطاوى يدير شئون الدولة واحتياجاتها ومجلس الأمناء يتولى العملية السياسية.. انتهى كلام هيكل.. لكن هل هذه السيناريوهات البديلة والأقرب للتنفيذ فى حال فشل سيناريوهات نقل السلطة فى الوقت الحالى.. وعدم إمكانية إجراء الانتخابات البرلمانية فى هذا الجو من الانفلات والتفسخ الشديد لأوصال الدولة.. يبدو أن هذا هو الأقرب للواقع.