كانت الحياة المصرية قبل هذه الثورة قاصرة ومقصرة! كانت قاصرة عن أن تتيح للمصريين هذه السعادة الفردية والاجتماعية وليس أدل على ذلك من ذلك الشقاء المظلم الكئيب الذى أفسد حياة الكثرة الكثيرة من المصريين فملأها فقراً وجهلاً ومرضاً، ملأ قلوب الناس حقداً وغلاً وضغناً وحسداً، وأفسد الصلات بينهم. وألقى على الشعب المصرى كله ظلا بغيضاً من الذل فى حياته الخاصة والعامة، وأشاع من حوله السخط فكان ساخطاً على أموره كلها، وكانت الشعوب من حوله ساخطة على أموره كلها أيضاً! بعد أن قرأت الكلمات والسطور السابقة لاتظن، ولا يخطر ببالك أننى أكتبها لكى أصف بها أحوال مصر والمصريين طوال الحقبة التى تولى فيها «مبارك» حكم ومقاليد مصر قبل أن تقوم ثورة 25 يناير 2011. لو ظننت ذلك فأنت مخطئ ولأكثر من سبب يا عزيزى وسيدى القارئ! أولا: لست كاتب هذه السطور، بل كتبها عميد الأدب العربى د. طه حسين، وبطبيعة الحال لم يصف بها ما شهدته مصر وعانته زمن «مبارك» فالعميد طه حسين رحل عن عالمنا فى 28 أكتوبر 1973 وبعد حوالى ثلاثة أسابيع فقط من انتصار مصر العظيم فى حرب أكتوبر المجيدة أكمل وأشمل وأعظم انتصار عسكرى للقوات المسلحة المصرية فى تاريخ مصر والعرب. هذه السطور كتبها طه حسين فى مقاله «ثورتنا» ونشر فى صحيفة الجمهورية « 16 يوليو 1954» وكان طه حسين بهذا المقال الفريد يقدم لقادة الثورة وقتها بزعامة «جمال عبدالناصر» ما يريده الشعب منهم وما يحلم به كل مصرى ومصرية سواء لنفسه أو لوطنه. كتب الدكتور «طه حسين» يقول: «إن احتفالنا بالثورة ليس غرضاً يطلب لنفسه وإنما هو وسيلة والشىء المهم هو أن نستحضر فى نفوسنا دائما ما نريد وأن نبتغى الوسائل مخلصين إلى تحقيق ما نريد! ونحن نريد الحياة السعيدة الكريمة للمواطنين أفراداً وجماعات ونريدها كذلك للشعب كله، ونريد أن نحقق التوازن الدقيق بين سعادة الأفراد وسعادة الجماعات وسعادة الشعب فى جملته بحيث لا نضحى بحياة الفرد وسعادته وقيمته الإنسانية فى سبيل الجماعة، فالجماعة العزيزة لا تأتلف من أفراد أذلاء، والجماعة الحرة الكريمة لا تأتلف من أفراد مستعبدين، والجماعة السعيدة لا تأتلف من أفراد أشقياء. فليس بد من أن نسعد الفرد لنسعد الجماعة، ومن أن نغنى الجماعة ومن أن نشعر قلوب المواطنين أفراداً وجماعات العزة والحرية كرامة ليكون الشعب حراً كريما بالقياس إلى نفسه، وبالقياس إلى غيره من الشعوب، الفرد لا يشعر بالعزة إذا أحس بالجوع، ولا يقدر الحرية والكرامة إذا كان جاهلاً ولا يعرف لشيء من هذه الخصال كلها قيمة إذا كان مريضاً! فليس بد إذن من الصبر والمثابرة ومن حسن الاحتمال وحسن الاحتيال أيضا، فالجائعون لا يطهون إلا إذا وجد لهم الطعام، والطعام لا يوجد إلا إذا أتت الأرض ثمراتها وأتاحت لنا التجارة والصناعة من المال ما نملأ به بلادنا ثراء ويسراً، والجاهلون لا يتعلمون إلا إذا أنشئت لهم المدارس وخرج لهم المعلمون، والمرضى لا يصحون إلا إذا وجد لهم الأطباء ودبرت لهم وسائل العلاج على اختلافها. كل هذا يرجع آخرالأمر إلى شىء واحد وهو أن توجد القلوب الذكية والبصائر الثاقبة النافذة والعقول المدبرة المفكرة». فليس بد إذن لكل شعب ثائر ناهض حريص على أن يحزم أمره ويخرج من حياة سيئة إلى حياة صالحة من تكوين الصفوة الذكية البصيرة التى تخرجه من الشقاء إلى السعادة وتبلغ به من الحياة الكريمة الحرة ما يريد. ولعل مطلب د. طه حسين سنة 1954هو مطلب مصر الآن: الصفوة الذكية البصيرة «ليس إلا» !!