الانتخابات النيابية العراقية «12 مايو»، هى الأولى بعد هزيمة «داعش»، والثانية منذ انسحاب القوات الأمريكية 2011، دفعت للصدارة «تحالف سائرون» الذى يشكله التياران الصدرى الشيعى والمدنى العلمانى ب«54 مقعدًا» من إجمالى مقاعد البرلمان «329»، تحالف «الفتح» المكون من ميليشيات الحشد الشعبى برئاسة هادى العمرى فى المرتبة الثانية «47 مقعدًا»، وفى المرتبة الثالثة تحالف «النصر» برئاسة حيدر العبادى رئيس الوزراء «42»، ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نورى المالكى «26»، تحالف «الوطنية» بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوى «21»، وتيار «الحكمة» بقيادة عمار الحكيم «19»، وتحالف «القرار» الذى يرأسه أسامة النجيفى رئيس مجلس النواب السابق «14».. الأكراد حصلوا على «59 مقعدًا»، نصيب الحزب «الديمقراطى الكردستاني» بزعامة مسعود برزانى منها «25»، والاتحاد «الوطنى الكردستاني» الذى كان يرأسه الرئيس الراحل جلال طالبانى «18».. باقى المقاعد فازت بها بعض القوى السنية والطائفية والعرقية الصغيرة. الكتلة المحكمة الاتحادية العليا أرست عام 2010 قاعدة سياسية أضحت مرجعية للحكم، وهى أن الكتلة التى تكلف بتشكيل الحكومة ليست الفائزة بأكبر عدد من مقاعد البرلمان فى الانتخابات، وإنما أكبر كتلة تشكلها التوافقات السياسية بعد الانتخابات.. وبناء عليه تم آنذاك تجاوز كتلة علاوى «الوطنية» غير الموثوق به من إيران، رغم حصولها على «91 مقعدًا»، وأسند تشكيل الحكومة للمالكى بعد اتحاد قائمتين مواليتين لها «دولة القانون والتحالف الوطني» بإجمالى «159 مقعدًا».. هذه القاعدة تسعى إيران لتكرارها مع مقتدى الصدر. الصدر نجل المرجع الشيعى الأعلى بالعراق آية الله محمد صادق الصدر، الذى اغتيل بسبب محاولته كسر احتكار إيران لمرجعية الطائفة الشيعية، اتخذ موقفًا معارضًا للتدخل الإيرانىبالعراق، رفض دفع ميليشياته «جيش المهدي..» للحرب السورية، انفتح على القوى الممثلة للسنة، وأيد مطالب المنتفضين فى ساحات الاعتصام، عارض المالكى حتى رحل، قاد الاحتجاجات ضد الفساد والمحاصصة الحزبية، واقتحم المنطقة الخضراء مطالبًا بتحويل الفاسدين للقضاء، إيران أوقفت دعمها عنه بعد زيارته للسعودية، وتعرض لمحاولتى اغتيال، شكل تكتل «سائرون» ليخوض الانتخابات بتشكيلة وطنية، ايران أكدت قبل الانتخابات أنها لن تسمح له بالحكم، لكنه فاز بأكبر المقاعد، وخسر المالكى ثلثى مقاعده، أنصار الصدر احتشدوا فى ساحة التحرير وسط بغداد، احتفالًا بالنصر، وهتفوا «إيران برا برا.. بغداد حرة حرة» مما أثار ذعر طهران، خاصة وأن ذلك يتزامن وخسائر استراتيجية، بعد اجتثاث إسرائيل لبنيتها العسكرية بسوريا، واستئناف إجراءات الحصار الأمريكى. مثالية الصدر الصدر تغلب عليه المثالية، مما قد يعيقه عن تحقيق تطلعاته السياسية، دعوته للعبادى بالتخلى عن عضوية حزب الدعوة، تلميح غير واقعي، جانبه الصواب، لأن قوة العبادى السياسية تنبع من قدراته التوافقية؛ لذلك وازن خارجيًا بين التعاون مع إيران والتحالف مع أمريكا، وداخليًا بين انتمائه لحزب الدعوة بامتداداته السياسية، وتعاونه مع المرجعية الدينية فى النجف الأشرف، ومع معظم الأحزاب والقوى السياسية، استقالته من الدعوة تفقده ميزة التوافق، المطلوبة للعراق، خاصة خلال المرحلة الانتقالية.. تكنوقراط العبادى فكرة الحكومة الأبوية والوزراء التكنوقراط أيضًا وجدت قبولاً لدى العبادى لأنه يطمع فى تولى رئاسة الحكومة، لكنها قد لاتجد قبولًا لدى معظم الأحزاب، لأن العراق نخر الفساد فى عظامه، وأضحت المناصب الوزارية تأشيرة دخول لعالم الصفقات المربحة، لذلك لن تتنازل الأحزاب عن مبدأ المحاصصة.. دعوة الصدر لحكومة تمثل جميع الكتل الفائزة هو جمع للمتنافضات، ولاتشكل حكومة قادرة على الأداء.. الصدر يسعى للإصلاح، لكنه لن يكون رئيسًا للحكومة، لأنه لم يترشح للانتخابات، وما حصل عليه تكتله من مقاعد «محدود نسبيًا»، لا يطلق يده فى التغيير، لذلك فالنصيحة الواجبة له ب«المرونة»، حتى لاتطيح به المصالح، ويعود العراق لأحضان «فارس». من يحكم العراق؟! «من يحكم العراق؟!» لم تعد مسألة وطنية، وإنما أضحت قضية تتعلق بمعركة إعادة إيران إلى داخل حدودها، واسترداد العراق لهويته الوطنية، ونبذ الاستقطاب الطائفي، لاستعادة دوره الإقليمي، ووقف الاجتراء التركي، كل ذلك يفسر الاتصالات المحمومة لسفراء أمريكا وبريطانيا وإيران مع رؤساء الكتل، ووصول بريت ماكغورك مبعوث ترامب إلى العراق.. فنتائج المشاورات السياسية الراهنة بالعراق ستؤثر على توازنات المنطقة لسنوات قادمة. أمريكا أمام اختيار سياسى بالغ الصعوبة؛ مصلحتها أن يحكم العراق ائتلاف قادر على تقليص النفوذ الإيراني، وهو ما يمكن أن يحققه ائتلاف يرأسه الصدر، لكن تاريخ مقاومته للاحتلال منذ 2003، ودعوته لرحيل القوات الأمريكية بعدما تحقق النصر على داعش، يثير إشكاليات سياسية. المراهنات الأمريكية لكن أمريكا تراهن على ثلاث: دور العبادى كوسيط حقق التوازن بين العلاقة بإيران والتعاون مع أمريكا.. والتأثير السعودي.. ومرونة الصدر كسياسي.. بريت ماكغورك فى أربيل استهدف احتواء الخلافات بين الأحزاب الكردية، وتشكيل كتلة موحدة «59 مقعدًا»، تكون قادرة على التأثير فى المناورات السياسية الراهنة لتشكيل الحكومة، ومشاوراته مع عمار الحكيم وسليم الجبورى رئيس البرلمان، كانت للتعرف على الاتجاه العام للتحالفات، والاطمئنان إلى أنها لن تسير فى الاتجاه الذى تسعى اليه إيران، لكن هذه الاتصالات كانت موضع استنكار الصدر، باعتبارها تدخلاً «قبيحًا» فى الشئون العراقية. نفوذ إيران إيران تعتبر نفوذها بالعراق معركة مصيرية، فوز عدوها الصدر، وخسارة ركيزتها المالكي، كارثة سياسية، أوفدت على أثرها قاسم سليمانى قائد العمليات الخارجية بالحرس الثورى لإعادة تشكيل «التحالف الوطني»، الذى يضم القوى الشيعية الرئيسية، ويعيد تجميع المختلفين بحزب الدعوي، المالكى والعامرى والعبادى والحكيم، إضافة ل«الوطنى الكردستاني»، ولكن ذلك لن يوفر الأغلبية المطلوبة «165 مقعدًا»، إضافة للعقبات التى تواجهها؛ «النصر» يضم قوى وعناصر سنية وكردية، وهم لن يتقبلوا العمل من خلال «الفتح» ولا «القانون»، بحكم تاريخ طويل من العداء السياسى والطائفي، استجابة العبادى لجهود سليمانى يهدد بتفكيك ائتلافه.. والحكيم انشق عن المجلس الأعلى الإسلامى التابع لإيران قبل الانتخابات، وبعد إعلان النتائج عقد اجتماعا تنسيقيا مع الصدر، ما يستبعد معه الاستجابة.. أمريكا بكل نفوذها فى العراق لن تسمح للعامرى بتبوؤ أى منصب رسمي، لموقفها المعادى لميليشيات الحشد الشعبى التى يقودها.. إيران تواجه معركة خاسرة. قبل الانتخابات استبعد الصدر إمكانية التحالف مع ثلاث قوى «الفتح، دولة القانون، الوطنى الكردستاني»، بعد إعلان النتائج استقبل العامرى زعيم «الفتح» وممثل الوطنى الكردستاني، حرصًا على ألا يشكل العداء معهما عقبة فى وجه الحكومة المقبلة، لكنه تمسك بمقاطعة المالكي، باعتباره مسئولًا عن تمدد النفوذ الإيراني، وتجذّر الفساد فى الدولة، واجتياح داعش لثلث العراق لتوفير مبرر لضرب الطائفة السنية.. من واقع ما جرى من مشاورات لتشكيل الحكومة. التكتلات يتضح تبلور مجموعة من التكتلات؛ الأول: تحالف الصدر والحكيم والعبادى «115 مقعدًا»، الثاني: تكتل ائتلاف «الوطنية» علاوى وتحالف «القرار» النجيفى والأكراد بزعامة «الديمقراطى الكردستاني» البرزانى «94 مقعدًا»، الثالث: ائتلاف «الفتح» العامرى و«دولة القانون» المالكى «73».. هناك تفاهمات بين الصدر وعلاوي، لو نجحت فى جمع التكتلين الأول والثانى يتم حسم القضية وتتشكل الحكومة بأغلبية مريحة «209 مقاعد»، وتفاهمات أخرى بين المالكى والبرزاني، لو انضم الأخير للتكتل الثالث لن يؤثر على أغلبية التكتلين الأول والثاني، ولكنه يرفع مقاعد التكتل الثالث ل«95 مقعدًا»، وحتى لو نجح فى جر باقى الأحزاب الكردية معه سيصل إلى «132 مقعدًا»، مما يعنى أن لا أحد قادرًا على المساس بفرص الصدر فى تشكيل الحكومة العراقية، خاصة وأن العديد من القوى والعناصر السنية والكردية تعتزم الالتحاق به. محاولات إيران الفاشلة محاولات إيران تجميع الأحزاب الموالية لها لتشكيل الحكومة باءت بالفشل، الاحتجاجات التى قادها الصدر على مدار عامين فضحت العملاء، والفاسدين، وحرمت كتلاً تقليدية من مؤيديها، وأصبح هاجس المحاكمة يراودهم، مما يفسر إحجام بعض السياسيين والنواب المخضرمين عن الترشح «فؤاد معصوم رئيس الجمهورية، إبراهيم الجعفرى وزير الخارجية..»، وهروب 40 نائبًا ووزيرًا سابقًا بأسرهم للخارج بمجرد خسارتهم للانتخابات.. كل العوامل مهيأة لتجرع إيران مر هزيمة جديدة، تعيد العراق العربي، بشيعته وسنته، بعربه وكرده، وبكل أطياف التركيبة السكانية الثرية، إلى دوره المؤثر كقوة إقليمية، تعيد التوازن للمنطقة.. العبادى انحاز للصدر لصالح العراق العربي، ولم يسقط فى بئر المالكي، رئيسه فى حزب الدعوة، تجنبًا لتحول العراق إلى محافظة ضمن بلاد فارس، وهناك احتمال لانضمام تحالف «الفتح» لائتلاف الصدر، للحفاظ على ماء وجه إيران.. وفى كل الأحوال فإن القادة السياسيين ينبغى أن يتفقوا، وفورًا، على سقف للخلافات، يحول دون اللجوء إلى السلاح فى تسوية المشاكل، لأن معظم الكتل السياسية الشيعية تمتلك مليشيات مسلحة، وإذا ما أدركت إيران أن التوليفة الحاكمة ستمس نفوذها بالعراق، فقد تحرض البعض على الآخر.. وعلى الجيش الوطنى العراقي، جيش النشامي، أن ينتبه، ويستعد، لحماية وطنه من أى تهديد، داخلى أو خارجى.•