إن ما سبق تبيينه في المقال السابق حول معني ومفهوم وطبيعة الوحي كما ورد في كلام العرب وكما نص عليه القرآن الكريم، يخالف تماما ما يعتقده الناس اليوم في معني ومفهوم الوحي، فما يظنه معظم الناس من أن الله يتكلم، أو له صوت، أو له كلام مسموع ومتلو، أو أن الأنبياء كلموا الله، أو كلمهم الله، أو أنهم رأوا جبريل وكلموه، أو كلمهم جبريل، أو أن الله كلم جبريل، أو كلمه جبريل، فكل هذا هراء ما أنزل الله به من سلطان، بل كل ذلك من تخاريف الجهلاء والسفهاء الذين لا يعلمون من الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وتعالي الله عما يقولون علوا كبيرا، إن حقيقة الوحي من الله إلي أنبيائه ورسله، هي عملية تحدث في الخفاء في قلوبهم ولا يشعر بها سواهم، ثم يقومون بتبليغ ما نزل علي قلوبهم من وحي إلي أقوامهم بلسانهم البشري الذي يتكلمون به، من دون أي تدخل إلهي في صياغة اللسان البشري. هل الوحي خاص بالأنبياء والرسل؟ يعتقد كثير من الناس خطأ أن الوحي الذي هو بعض علم الله قد اصطفي الله به الأنبياء والرسل من البشر وحسب، بل أوحي الله ببعض علمه لكثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء أو رسل بل وأوحي إلي المخلوقات من غير البشر كما ورد في الكتاب الكريم، فالوحي بمفهومه ومعناه الذي سبق أن بيناه لم يحدث للأنبياء والرسل وحسب، بل أوحي الله إلي بعض الناس الذين ليسوا بأنبياء ولا رسل، وأوحي للملائكة، وأوحي للحيوانات والجمادات كذلك، بل وأوحي الشياطين إلي أوليائهم وأوحي الناس إلي الشياطين، علي النحو التالي: الوحي إلي الملائكة: (إِذْ يوحِي رَبُّكَ إِلَي الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ). (الأنفال- 12). الوحي إلي أم موسي: (وَأَوْحَينَا إِلَي أُمِّ مُوسَي أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (القصص- 7). الوحي إلي يوسف وهو طفل: أوحي الله إلي يوسف وهو طفل صغير حين ألقي به أخوته في الجب: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يجْعَلُوهُ فِي غَيابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَينَآ إِلَيهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يشْعُرُونَ). (يوسف- 15). الوحي إلي حواريي عيسي بن مريم: (وَإِذْ أَوْحَيتُ إِلَي الْحَوَارِيينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). (المائدة- 111). الوحي إلي النحل: (وَأَوْحَي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يعْرِشُونَ). (النحل- 68). الوحي إلي السماوات: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يوْمَينِ وَأَوْحَي فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَينَّا السَّمَاء الدُّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). (فصلت- 12). الوحي إلي الأرض: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا* يوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لَهَا). (الزلزلة- 1: 5). وحي زكريا إلي قومه حين خرج عليهم من المحراب (فَخَرَجَ عَلَي؟ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَي؟ إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِياً) (مريم:11). وحي الشياطين إلي أوليائهم: (وَإِنَّ الشَّيَطِين لَيوحُونَ إِلَي؟ أَوْلِيآئِهِمْ) (الأنعام:121) وحي شياطين الإنس والجن بعضهم إلي بعض: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِي عَدُوّاً شَي؟طِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يوحِي بَعْضُهُمْ إِلَي بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام:112). الوحي الإلهي إلي النبي محمد هو العلم المعنوي وحسب: (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يقْضَي إِلَيكَ وَحْيهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (114- طه). فلو كان الوحي ينزل نصا علي قلوب الأنبياء بصياغة إلهية كما يقول بعض الإخوة، فهل كان ينزل نصا علي الملائكة كذلك حين يوحي الله إليهم؟؟، وبأي لسان كان ذلك الوحي إلي الملائكة؟؟ وهل كان به تنقيط وتشكيل؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي إلي أم موسي وبأي هيئة وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي ليوسف وهو طفل صغير وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي إلي حواريي عيسي بن مريم وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي إلي النحل وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي إلي السماوات والأرض وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي من زكريا إلي قومه حين خرج عليهم من المحراب وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي من الشياطين لأوليائهم وبأي لسان؟؟، وكيف كانت هيئة الوحي من الإنسان للشيطان وبأي لسان؟؟، فهل يقال بعد هذه النصوص البينة الساطعة أن الله ينزل وحيا منصوصا ملفوظا مرسوما مصاغا بلسان بشري علي قلب النبي محمد؟؟؟. هل انقطع الوحي؟: يعتقد كثير من الناس أن الوحي الذي هو علم الله وحكمته قد انقطع بانقطاع النبوة والرسالات، بل إن الذي انقطع هو وحي النبوة والرسالات، أما علم الله وحكمته فمازال مستمرا، يوحي الله به لكل الناس بلا استثناء، يوحي إلي مؤمنهم وكافرهم، ويظهر علم الله هذا ووحيه، في التنبؤات التي نتنبأ بها في أحلامنا ويقظتنا عن أشياء ستحدث في المستقبل، ثم نراها تحدث بالفعل، فجميعنا يري في منامه أن قريبا له قد مات فيموت بالفعل بعد بفترة. وجميعنا يري أشياء في منامه ويشعر بأشياء في يقظته، سواء كانت خيرا أم شرا، ثم نراها تتحقق أمام أعيننا كما رأيناها خفية في نفوسنا، سواء في نومنا أو يقظتنا، فكل ذلك من علم الله الذي يوحيه إلي الناس جميعا، لا فرق بين كافر بالله أو مؤمن به، فالجميع فيه سواء، من دون رسم ولا لفظ ولا خط ولا صياغة.