أقدر الخبرة العريضة للأستاذ جهاد الخازن الكاتب الرئيسي لجريدة «الحياة»، ورئيس تحريرها الأسبق، وأستطيع أن أتصور حجم علاقاته العربية، وبما في ذلك تواصلاته المصرية، وتعمقه السوري، فضلا عن متابعتي لأسلوبه في الكتابة، الذي حتي لو لم أجده يليق بنوعية الكتابة السياسية التي يتصدي لها في كثير من الأحيان، إلا أنني أجده لطيفا وممتعاً ومسلياً.. وقليل من الكتاب العرب لديهم هذه المقدرة. هذا التقدير لا ينفي الاختلاف، خصوصا مع المقال الذي نشره الأستاذ الكبير يوم الجمعة وحاول فيه أن يفسر.. انطلاقا من تصوراته وما قال إنه معلوماته وما زعم أنه ما سمعه من القاهرةودمشق حول طبيعة الخلاف بين العاصمتين العربيتين الكبيرتين.. وموجزه يندرج تحت بند يردده كثير من المحللين ذوي الهوي السوري الذين يعتقدون أن منشأ الخلاف هو (عدم وجود كيمياء شخصية بين الرئيسين مبارك وبشار). لقد بني عبدالباري عطوان قبل ما يزيد علي عشرة أيام مقالاً في جريدة «القدس العربي» علي مسألة الكيمياء الشخصية تلك، استناداً إلي تقرير إخباري (مضروب) مهنيا نشرته جريدة «الشروق» المصرية الخاصة، ولكن عبدالباري لا يستحق العناء في التعامل مع كتاباته ويكون إشغالا للقراء بما لا ينبغي أن نشغلهم به حين نتطرق إليه.. أما وأن الأستاذ جهاد قد مضي في ذات السياق.. فلابد إذن من وقفة. ليس لي عمق علاقات الأستاذ جهاد بدوائر دمشق، لكنني أستطيع أن أقول إن ما ذهب إليه في تفسير أسباب الجفاء بين القاهرةودمشق هو (تبسيط مخل).. ولا يجوز أن نقول احتراماً للكاتب الكبير إنه (تخفيف مختل).. أولا من حيث التعريف هو ليس ب(جفاء).. هذا مصطلح لا يجوز استخدامه بين الدول.. التي لا يديرها أشخاص.. وإنما مؤسسات تعبر عن مصالح قومية ووطنية.. وحتي لو كان لي قائمة من الملاحظات علي الأداء السوري فإنني لا يمكن أن اعتبر أن الأمور الآتية من سوريا نابعة من مواقف شخصية.. بل تعبر عن عقيدة أيديولوجية ومنهج متبع لا حياد عنه. بالتأكيد تفرض المقومات الشخصية نفسها علي طريقة أداء الدول، لأن المؤسسات في النهاية يديرها أشخاص، ولكننا هنا نتحدث عن رجال دول، والاستسلام لتفسير الكيمياء والجفاء وما شابه أمر لا يليق حين نتحدث عن زعماء يديرون دولا كبيرة.. لا يفترض أن كل العلاقات الطيبة بين كل زعماء العالم ممثلين لدولهم تعني أن بينهم علاقات شخصية عميقة.. كما أن العكس ليس صحيحاً. ما بين سوريا ومصر أعمق من تلك الفجوات التي نشأت بعد خطاب جامعة دمشق الشهير الذي وصف فيه الرئيس بشار عدداً من الزعماء العرب بأنهم (أشباه رجال) وهي مسألة لا أعرف لماذا تعمد جهاد الخازن تجاهلها، هذا كلام حين قيل ترك أثراً بليغاً.. ولكنه لا ينفي أن هناك مناهج مختلفة.. ورؤي متقاطعة لطريقة التعامل مع ملفات الإقليم.. والأهم مواقف تضر بالمصالح العربية المباشرة وتضر كذلك بمصالح مصرية. المعروف بالطبع أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بكل أبعادها بين مصر وسوريا تجري وفقا للمعتاد بين الأشقاء، لكن هذا لا ينفي أن هناك تناقضات جوهرية، أهمها أن التحالف السوري الإيراني يخل بتوازنات إقليمية ويؤثر جوهريا في ملف لبنان وملف فلسطين وملف العراق وغير ذلك.. وفيما مضي كان الرئيس حافظ الأسد يستطيع الوصول إلي الحد الأدني المطلوب من التوافق وكان لديه تصور متكامل لدور مصر.. لكن هذا ليس موجوداً الآن في دمشق.. ولا شك أن الأستاذ جهاد يدرك عمق الهوة بين الموقفين المصري والسوري في ملف لبنان.. علماً بأنه في الأصل مسيحي فلسطيني ثم تلبنن، و«سمي ابنه محمد». كما صنعت وسائل الإعلام السورية مزيداً من عوامل تفجير التوافق بين البلدين، في ضوء أنها داخلياً وخارجياً تنتهج مبدأ التخوين وقلة الأدب في التعامل مع الأمور، وقد يقول بعض الأشقاء في سوريا إن في مصر من يهاجم سوريا.. وهذا صحيح.. أنا شخصيا أنتقد كثيراً من التصرفات السورية.. ولكن أحداً من كتاب مصر لم يصل أبداً إلي حد التخوين أو الشتم.. مهما كان النقد عنيفا.. إن أبعد نقطة يصل إليها كاتب في مصر هي مساءلة سوريا عما فعلته لتحرير الجولان السورية.. وهذه حقيقة تطارد الأشقاء في دمشق. المسألة لم تكن علي الإطلاق من الذي عليه من الزعماء العرب أن يزور الرئيس مبارك بعد قمة سرت، وهل هو الرئيس السوري أم هو الرئيس اليمني، هذه في النهاية زيارات ذات أبعاد شخصية تعلقت بأن الرئيس مبارك كان عائدا من رحلة علاج في ألمانيا، لكن ليس بهذه المقاييس تدار الأمور يا أستاذ جهاد. إن سوريا مطالبة باستحقاقات تتسق مع المصالح العربية، لا أعتقد أنها راغبة في أن تفي بها سواء في لبنان أو في فلسطين أو فيما يتعلق بعلاقاتها بإيران.. في ضوء موقف عقيدي يخاصم الدور المصري بالأساس.. وفي ضوء شبكة مصالح سياسية وشخصية مرتبطة بمجريات لبنان.. وفي ضوء أننا في مرحلة فرز إقليمي ما بين اتجاهين.. الأول تمثله مصر والسعودية والأردن والسلطة الفلسطينية ومجموعة غالبة من دول الخليج.. والثاني تمثله إيران وسوريا وتوابعهما حزب الله وحركة حماس وتنظيم الإخوان.. نسيان كل هذا في أي تحليل سياسي يفقده قيمته وينزع عنه مسماه.. يكون وقتها أي شيء آخر غير أنه تحليل سياسي. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]