أوكلت إليه مهمة قصف برج المراقبة في إحدي النقاط القوية للجيش الإسرائيلي علي خط بارليف وتسمي «تبة الملاحظة» وهي إحدي نقطتين قويتين كانت كتيبته مسئولة عن التعامل معهما مع بدء الحرب وتسمي الثانية «تبة المسحورة». «عبدالفتاح عبدالكريم» - 59 سنة - عريف مجند مشاة وقت حرب أكتوبر المجيدة ونال شرف الجندية في 2 سبتمبر عام 1971 كأحد أفراد طاقم مدفع يحمل اسم «مرد» المضاد للدبابات وهو مدفع خفيف يمكن حمله ونقله من مكان لآخر وكانت مسئوليته علي المدفع هي التصويب والقصف. ويقول: لم يكن ذلك صعبا خاصة أن كتيبتي كانت تتلق تدريبا علي اقتحام خط بارليف وكيفية السيطرة علي المواقع التي يحتلها العدو خلفه وعلي التبة القوية المطلوب تدميرها وذلك في موقع مشابه. مستطردًا: مساء يوم 5 أكتوبر 1973 حدث شيء جعلنا نفكر كجنود بأن الحرب ستقوم وهو إعلان حالة الاستعداد القصوي وتواصل ورود الإمدادات للقوات المصرية علي الجبهة بشكل كبير، واستدعاء دفعات الاحتياط إضافة إلي وقف الإجازات قبلها بأيام كما يتكرر كل عام فيما يعرف بمناورات الخريف. ويواصل: في الساعة الثانية عشرة يوم 6 أكتوبر منحني قائد الفصيلة ورقة بها تعليمات مباشرة بتوقيتات الاشتباك وبدايته ومواعيد قصف الهدف المحدد لي.. وقتها أيقنت قيام الحرب، وكنا نسمع كل يوم أثناء الظهيرة تغريد العصافير من الحدائق الواقعة خلف النقطة التي نوجد فيها إلا أن ذلك لم يحدث في هذا اليوم حيث ساد السكون والصمت المكان وكأنها رهبة نزلت من السماء وملائكة غطت المنطقة وتقف مع الجنود علي الجبهة. وبعد أن استعد الجميع علي الساتر الترابي أمامنا كل في موقعه قبل الثانية ظهرا استرجعت أمام عيني حياتي من بدايتها إلي نهايتها في عرض يشبه شريط الفيديو، وتذكرت أنني غير مسئول عن أسرة أو وظيفة أو غيرها.. واستحضرت قوتي مصمما علي استخراج هذا الكبت الداخلي وتلك المرارة في الانتقام من العدو الإسرائيلي الذي يواجهني وحول حياة المصريين إلي حياة مجهدة طيلة سنوات مضت.. وفجأة بدأ الطيران المصري في المرور فوق رءوسنا وقصف مواقع العدو وشل حركته وبدأت أنا في قصف برج المراقبة الذي تم نسفه بعد قصف الدانة رقم 5 وسقط العلم الإسرائيلي الذي كان يرفرف عليه، وهنا تضاعف حماس الجنود عشرات المرات، وواصلت القصف لأكثر من 25 دانة علي نفس الموقع حتي أن أحد الجنود صعد فوق ساتر ترابي وأطلق زغرودة في تعبير منه للفرحة الشديدة. بعدها عبرنا المياه إلي الضفة الشرقية وحاصرنا تبتي «الملاحظة والمسحورة» ولم نجد أي مقاومة من العدو في الساعات الأولي لمفاجأته بالحرب وشل حركته إلا أنه أفاق في المساء فظل يقصف بمدافعه تجاه القوات المصرية فاحتمينا في السواتر والخنادق.. ومع أول ضوء نهار يوم 7 أكتوبر ظهرت دبابة إسرائيلية متجهة نحونا فقصفتها وأصبتها في الجنزير وقمت أنا وزملائي بأسر طاقمها المكون من 4 أفراد وتلاها استسلام طاقم النقطة القوية «الملاحظة» وعددهم 12 فردا وتم تسليمهم لقائد السرية النقيب سيد البرعي.. ومزج إحساسي بالانتصار والفرحة برغبة شديدة في مواصلة الانتقام بعد أن وجدت صديقي «محمد عبدالعزيز» رقيب المشاة وقد استشهد نتيجة الاشتباك في المعركة حتي أنني حلمت وأنا متيقظ بأن أدخل وأسيطر علي تل أبيب نفسها. ورغم أن الحمولة التي كانت علي ظهري ثقيلة تصل إلي 60 كيلو جراما هي وزن 3 دانات مدفع والتعيين وذخيرة للسلاح الشخصي إلا أنني لم أشعر بها وكنت أتحرك وأتسلق السواتر وكأنني لا أحمل شيئًا.. وفي نهاية يوم 7 أكتوبر تقدمنا بضعة كيلو مترات في عمق سيناء وأقمنا الحفر البرميلية لنحتمي بها وتبادلنا الاشتباكات حتي يوم اكتشاف الثغرة. ووقتها كنا نسمع خطبة الرئيس السادات في مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر عن نصر الجيش المصري والإنجازات التي تمت في الحرب. ويحكي «عبدالفتاح» عن قصة مأساوية لموت أحد أصدقائه قائلا: في أحد الأيام وردت لنا الإمدادات وصمم أحد زملائي ويدعي «محمد علي» من الشرقية علي حمل 3 مهمات أفراد وحده وهي لي وله ولآخر ورفض أن نحمل معه شيئا ولم نعلم ما هو السبب؟.. وفي اليوم التالي 19 أكتوبر وأثناء جلوسنا علي إحدي التبات المرتفعة ولم يفصل بيني وبينه سوي مترين اثنين فقط كنا نتبادل الحديث سويا وكان يقول إنه متزوج منذ شهرين فقط وأنه يحب زوجته حبا شديدًا، وإذا فجأة ب«دانة» دبابة تقصفه في ظهره فأردته قتيلا في الحال، وقمت بدفنه أسفل التبة في نفس المكان الذي استشهد فيه، وأبلغنا قيادتنا باستشهاده، وبعد نصف ساعة حضرت سيارة عسكرية لنقله فقمت باستخراج جثمانه مرة أخري وتم نقله. هنا أدرك عبدالفتاح أن الحياة ليست لها قيمة إلا إذا انتقم لزملائه الشهداء ومصر كلها وواصل مسيرته في الحرب وسط الجنود حتي انتهت وخرج منها سالما ليدلي بشهادته علي العصر.