كنت جالساً وحدي أفكر في الصديق السوري الذي حضر سنة 2003 احتفالية مرور عشرين عاماً علي وفاة أمل دنقل، وكان لا بد أن أفطن إلي أن الاحتفالية، لأن الصديق حضرها، قد أصبحت طاهرة كلها، حوادثها صواب في صواب، إلا أنني أخطأت وتجرأت بإعلان بعض انطباعاتي السلبية الهشة حول شعر أمل، فاستحققت ألوان اللعنة الخفيفة ونصف الثقيلة من الصديق إياه، لكنه والحمد لله أعفاني من ثقيل لعنته، كثيرون غيره فعلوا، ولم أحقد عليهم، سواء الأعلام منهم أو الأوهام، وكنت أفكر في سمير فريد وهو ليس صديقاً ولا سورياً ولا عدواً، ولا أعرف أنه نال جائزة التفوق سنة 2005، وكان لا بد أن أفطن إلي أن جائزة التفوق، لأن سمير فريد قبلها، قد أصبحت مقدسة، وشمسها الساطعة تنير النهار والليل معاً، إلا أنني أخطأت، وذممت الجائزة لأنها لا تليق باسم فاروق عبد القادر، فاستحققت من سمير بعض الغمز المستتر الذي لا يخلو من إشفاق، وسمعة الرجل تشهد بأنه صاحب رأفة وصاحب إشفاق، وتشهد أنه قد ينكر السماع بي، ما دمت لم أكتب عنه كتابا، واستعبرت بالحادثتين، وأخذت أردد مع نفسي ما كان يردده الجواهري مع نفسه، دون أن أنسي فروق الطول بيننا، الجواهري وأنا، ودون أن أنسي أنني من مريديه، وأنه لم يعرفني قط، كنت أردد وكأنني أتوعّد بشراً مجهولين، يخايلونني ويختفون، ثم يخايلونني ويختفون، ثم يخايلونني ولا يختفون فأراهم في المآتم التي تجمعنا: أنا حتفهم، أَلجُ البيوت عليهمو أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا وكنت كلما بلغت كلمة (الحاجبا) رجعت إلي البداية، أنا حتفهم، ألج البيوت عليهمو، وقبل أن تطأ قدماي عتبة أي بيت، هاتفني شاكر عبدالحميد وأبلغني نبأ وفاة سعيد عبيد، وبيننا وشائج لا تتجاوز حدود القلب، فطردت الجواهري من لساني، واستعنت بالتقية، بعد يومين فقط أبلغني مكاوي سعيد نبأ محمد عبدالسلام العمري، فطردت الجواهري من جسدي كله، واعتذرت للصديق السوري وللسيد سمير فريد، وتركتهما جالسين أمام مكتبيهما في باريس والقاهرة، أحدهما ينقد الشعر ويستفتيه ويحنو عليه ويترجم، والآخر ينقد السينما ويستفتيها ويحنو عليها ويؤلف، وليس أجمل من الحنو والفتاوي والترجمة والتوليف، خصوصا لو كانت بلسان ماركسي خالص منقوع في شعارات أيامذاك وحداثة أيامنا فيتعلم ويعلم ما تقدم من الأمور كلها وما تأخر، تركتهما وأنا أوشك أن أنوح وأندب، أيتها الكتب خذي بثأرك مني، أيتها الأحلام أنقذيني، وفجأة تذكرت ما كان يرويه الرواة في حكاياتهم الخيالية، كانوا يخبرون عن ملائكة الأزمنة القديمة، أنهم ظلوا يظهرون للبشر ظهور الطيرِ الطائرِ والمثل السائر، ذات مرة حكي أحدهم عن شخص تأبط ذراعَي ملاكيه الحارسين، واصطحبهما إلي خلوة محبوبته، وأوقفهما ببابها ودخل، وفي طريق عودته روي لهما التفاصيل، كانت رائحة الخمر تفوح من فمه ومعها روائح اللذة، فيتسارع حكيه، والملاكان يستمعان بإنصات، ولا يدوّنان، كبار الملائكة حسب تلك الحكايات لهم طبيعة خاصة في الظهور، جبريل ينكشف للأنبياء فقط، ولما انقطع الأنبياء، انقطع مثلهم، إسرافيل جالس خلف بوقه حتي تحين لحظة النفخ، ميكائيل محجوب بمهامه الجليلة، الملاك الوحيد الذي سيراه كل الناس هو عزرائيل، أجدادنا علّلوا موت الميت، مرة بالخوف عقب مشاهدة وجه عزرائيل، ومرة عللوه بيد عزرائيل اليمني التي تمتد وتنزع الروح، فيما يده اليسري تقطف من شجرة الحياة، ورقته الخضراء المكتوب عليها اسمه، يحكي القزويني عن عزرا، ويقول: هو هكذا، لونه أبيض يضرب إلي السمرة شيئاً يسيراً، وملبوسه وردي مخطط بأحمر، وفوق هذا الملبوس سترة خضراء، تميل للدكونة شيئاً يسيراً، سرواله أزرق، وأجنحته جناحان، وألوانهما أحمر وأصفر وأزرق وأبيض، له قرنان من الشعر الأسود، القرن اليمين منهما نازل علي كتفه اليمني، وخارج من خارج جناحه إلي طرفه باعوجاج، والقرن الشمال علي الشمال من داخل جناحه، يقصر شيئاً يسيراً عنه، بيده رمح، وبرأسه خمسة أسنة، وهو جالس به كجلوس القواس الذي يرمي النشاب، يروي الرواة، أن النبي رأي ابنه إبراهيم يموت وفي عينيه الرعب، فأشفق علي الناس، وناجي ربه، ورجاه أن يعفيهم من رؤية عزرا، ومنذها تحول عزرائيل إلي ملاك خفي، وها أنذا أنشغل به أكثر من انشغالي بإبليس الذي شغل العقاد وميلتون والفقهاء والشيوخ وأهل المتعة، وأظن أن أبا نواس هو من صرفني عنه، فبعد أن تخيلت إبليس الملاك الغاضب، تراجعت وصار عندي الملاك السوقي، بسبب ما كتبه أبو نواس عنه: عجبتُ من إبليس في تيهه وخبث ما أظهر في نيتهِ تاه علي آدم في سجدة وصار قوادا لذريتهِ وحرصت أن أنظر في نفسي إلي سيرة عزرا، ربما لأنني أخافه، ربما لأنني أتحاشاه قدر الطاقة، ربما لأنني تذكرت نصح خالي بأن أظهر اشتهائي لرؤيته إذا أردت أن أخدعه، خالي التزم النصيحة وحاولها بسبب أنه أحب فتاة رفضها أهله، فسكب بعض الكيروسين علي جلبابه الأبيض وأشعل النار، تصادف أن عزرا كان في مكان قريب، فأتي علي عجل، وأدي عمله بسرعة لم تسمح لخالي بخداعه، مات خالي بنصيحته، لكنني سأتبعه، سأختفي داخل سيرة عزرا، كنت أتمني أن أختفي خلف ماجدة شعراوي وسعاد حسني وسلوي حجازي وأمي وأبي، إلا أنني في الأخير لجأت إلي الملاك نفسه، وتذكرت أنه لولا اجتهاده في عمله لما اختلفت صورة العالم، فإفناء بعض البشر بأحلامهم وعقائدهم ووساوسهم وأزيائهم وأسرارهم وأكاذيبهم، يفسح المجال لقدوم آخرين بأحلام وعقائد ووساوس وأزياء وأسرار وأكاذيب أخري، وهكذا نتجدد نحن ويتجدد العالم، وفي كل عصر يساعد عمل عزرا علي ميلاد ما هو جديد من بين الأشياء العادية، يساعد عمله علي تصميم المشهد الجدلي للحياة، ويتفنن ويجعل الجديد حلماً جماعياً يشبه الموضة، فيصير للموضة مذاق الحلم، وللحلم شكل الموضة ورونقها، عزرائيل بمكنسته العالية يكنس كل قديم، ويفتح الشرفات كلها أمام الأحدث، فإذا أصبح المحدثون قدماء، أعاد الكنس من أجل أفواج أخري، هو ملاك الموضة، هو الملاك الطليعي، هو الملاك المشغول بمنح العالم حقه في أن يكون أكثر دنيوية، هو الملاك الأحمر وكلما بدا أن الزمن يصير دائرياً بالتدريج، هبط بمظلته، ولف عقارب الزمن لتكون في اتجاه التاريخ فيصبح الزمن مرة أخري زمنا خطياً، تمر علي عزرا أيام عمل كثيف، يستعين فيها بمعاونيه ومريديه من الملائكة الصغار، لكن كثافة العمل لا تتعبه، تسره وتطمئنه إلي أن العالم يتغير، في الحروب، في الفيضانات، في الزلازل، في مصر، في الأوبئة، في الانتحارات يعمل عزرا بروح الملاك المخلِّص، لا تخيفه طبقات البشر الاجتماعية، أقدار أغنيائه لا ترتفع عنده عن أقدار بسطائه، ولولا تلك العدالة، وذلك الاستمرار، ما اخترع الناس القيم التي يتباهون بها، فما الشجاعة وما الجبن، لو لم يكن عزرا يحمل منجله؟ الغريب أنه حتي الفنون والآداب مسكونة بروحه، فالإنسان الصغير، الإنسان الضائع، الإنسان الذي لا بد أن يسقط في النهاية ويغيب داخل حفرة، الإنسان المتناهي، يبحث منذ الأزل عن طريقة لخلوده، الخلود بالسلالة وهم تقبله الأغلبية، أما الأقلية فصنع التماثيل والقصائد والروايات والمسرحيات والرسوم والموسيقي، تصنعها بهاجس المستقبل والخلود، هو نفسه هاجس الانتصار علي عزرا، حتي إن ما بعد الحداثة وما بعد بعدها، والتي حرصت في كل بياناتها أن تسخر من السعي وراء أزمنة ليست لنا، وراء مستقبل هو لأصحابه وسكّانه، حتي هذه الحداثة أدركت أن فنونها وآدابها أصبحت تخلو من ذلك الخيط السحري الذي كان الخوف من الموت والرغبة في الأبد يمسكانه ويشدانه من طرفيه، فتتوتر اللوحة، وتتوتر القصيدة، عزرا يستمتع بهاجس ضحاياه أن يهزموه، جبريل وإسرافيل وميكائيل ورضوان خازن الجنة ومالك خازن النار وهاروت وماروت المحكومان بالتيه، كلهم ملائكة أنيقون، يرتدون السموكنج في السهرات والملابس الخفيفة نهارا، ويجلسون في أماكن نائية، ولا يقفون عند ناصية، ولا يذهبون إلي مقهي، ولا يفكرون في ملاك غائب، إلا إبليس، وإن أصبح عندي بسبب أبي نواس صعلوكاً سوقيا فاقد الأهلية، عزرائيل فقط هو الملاك الطليعي الشعبي العامل المجتهد ذو البدلة الزرقاء، منذ الآن يشغلني مصيره عندما ينتهي العالم، هل سيتقاعد وييأس ويصبح شيخا بائساً، هل سيتبدد كهواء تتساقط ذراته فوق كل القبور، أم أنه سينشأ عالم جديد يحل محل عالمنا، ويستمر هو في عمله الخلاق، هل يمكن في ذلك العالم البديل أن يذكرنا، ويذكر أنني انشغلت به وانصرفت عن التفكير في الصديق السوري، وفي سمير فريد، وهذه خطيئة، لنترك السوري لأنه عابر، أما سمير فقد رافقني إلي محبة السينما ودلني عليها، هل يجب أن يعلم الجميع شيئا عن سمير فريد، وعن أنني قرأته وأقرؤه بشغف مثلما أقرأ عدنان مدانات وإبراهيم العريس ومصطفي درويش وخيرية البشلاوي ومحمد رضا وغالية قباني، ومثلما كنت أقرأ سامي السلاموني، وأعلم أن مقامه في السينما أعلي من مقام التفوق، وأعلي من رئاسته للجنة السينما التابعة للمجلس الأعلي للثقافة، مجلس الجوائز، وأعلم أن جوائز الدولة كلها، في سوريا وليبيا والعراق وتونس وفلسطين وبنجلاديش ومصر، هي واحدة من ثلاث، الأولي أن تكون مكافأة لنصير، والثانية أن تكون إغراء لمحايد أو ترويضا لخصم، والثالثة أن تكون اجتذابا لمريدي قطب كبير صاحب شعبية وإجماع، أما الرابعة فقد اخترعها السيد الموت وهي أن تكون تلويثاً لسيرة شخص كان يرفضها في حياته، بحجة التكريم أو الإعانة يفرضونها عليه في موته، هكذا هي جائزة مهينة ولا أخلاقية، هل يجب أن نعلم شيئا آخر عن سمير فريد، إنه الملاك الذي علّق نفسه علي خشبة، فرأيناه من كل اتجاه، وهتفنا: يعيش الملاكان، الملاك الأحمر، وسمير فريد.