في وحشية منقطعة النظير، قامت السلطة الانجليزية في الثامن والعشرين من يونيه سنة 1906، بتنفيذ أحكام الجلد والإعدام شنقا التي صدرت ضد المتهمين في حادثة دنشواي الشهيرة، ولم تكن التهمة التي أدينوا بسببها إلا التمسك بالحق في الحياة، ومقاومة حفنة من جنود الاحتلال الذين تجاوزوا صيد الحمام إلي العبث بأرواح البشر، علي أرضية اللهو والشعور الطاغي بالغطرسة واللامبالاة. سنوات غير قليلة كانت قد مضت علي الاحتلال الانجليزي لمصر، ومن هنا الحرص علي استعراض القوة في قسوة سادية لا قانون يبررها ولا عرف يتوافق معها، لم تكن المحاكمات الهزلية التي جرت إلا مسرحية شكلية متهافتة تخلو من الجدية والاتقان، أما الاحكام الجائرة فسابقة التجهيز، والضحايا الأبرياء لا يجدون من ينصفهم أو يدافع عنهم، الصراع يخلو من التكافؤ والندية، والطاغية كرومر، المندوب السامي والحاكم الفعلي، يجد الفرصة للبرهنة علي أنه وحده من يحكم ويتحكم في مواجهة شعب ضعيف لا يملك شيئا من آليات المقاومة. أراد الاستعماري البغيض اللورد كرومر أن يلقن المصريين درسا يجهض كل رغبة في المقاومة، وغابت عنه حقيقة أن المأساة قد تجاوزت كل الحدود، وأن بقايا الضمير العالمي لا تستوعب مثل هذا السلوك الهمجي، ولعل الانجاز الأبرز للزعيم الوطني الشاب مصطفي كامل هو الاستثمار الجيد لما حدث في قرية دنشواي، فقد استطاع أن يفضح ويدين السياسة الاستعمارية العنيفة، وأن يحظي بتعاطف الكثيرين من داخل المعسكر الغربي، وما كتبه جورج برنارد شوليه مجهولا أو غائبا، وكان لابد أن يدفع كرومر ثمن حماقته. ضحايا دنشواي ينخرطون في قائمة طويلة تتضمن عشرات الانتهاكات والتجاوزات الاستعمارية التي لا يمكن أن تنسي، ولا ينبغي أن تنسي، وبعد أكثر من مائة عام ماتزال الممارسات الكريهة تنتشر وتتكرر، فالسلوك الأمريكي والإسرائيلي لا يختلف موضوعيا عن المذابح التي ارتكبها الانجليز والفرنسيون من قبل ولا بديل عن الاحتفاظ بالذاكرة وانعاشها ومقاومة آفة النسيان.