لا يكاد البعض يعرف عن حادث دنشواى سوى أنها مجرد جريمة وحشية ارتكبها جنود الاحتلال البريطانى الذين خرجوا لصيد الحمام وفلاحى قرية دنشواى بالمنوفية بعد إصابة أحدهم ومقتل آخر متأثراً بضربة شمس، نصبت على أثرها المشانق وحكم بالإعدام على 4 منهم وبالسجن والجلد على آخرين. فيما يجد فيه آخرون باعثاً للحركة الوطنية التى قادت إلى الاستقلال فيما بعد، إلا أن أحداً لم ينظر إليها بعين الآخر خصوصاً النخب السياسية البريطانية والشعب البريطانى الذى لم يعترض على الممارسات الوحشية والأحكام الجائرة باستثناء قلة قليلة ثارت ثائرتها وفضحت العنف والوحشية التى شابت تنفيذ الأحكام، مثل الأديب الإيرلندى برنارد شو، وداعية السلام البريطانى ويلفريد بنت الذى أثار القضية فى مجلس العموم لكن صوت الساسة كان طاغياً ولم يترجم صراخه لخطوة فعلية تدين المذبحة أو تعيد التحقيق فيها. والراصد للصورة التى تم نقلها من واقع الوثائق عن الحادث يدرك مدى التلاعب والتلفيق الذى شابها، لتخرج صورة مشوهة اختفت معالمها الحقيقية وطغت الرتوش عليها عن عمد لتتم الجريمة دون معارضة، حيث تم تصوير الوقائع على أنها صدام بين الحضارة الغربية ممثلة فى جنود الاحتلال والأصولية الإسلامية ممثلة فى فلاحى المنوفية ونجح التناول البريطانى للحادث عبر الدوائر الرسمية خصوصاً فى تقارير الخارجية البريطانية ومناقشات مجلس العموم فى تحويل الضحية إلى جلاد يطالب البعض بالتخلص منه بأسرع وقت ممكن لحماية المجتمع من شروره. وساعد على ترسيخ هذه الصورة، الصحف المصرية الموالية للاحتلال وقتها وفى مقدمتها «المقطم» وقضاة المحكمة وبينهم مصريون: بطرس غالى وفتحى زغلول وممثل الادعاء إبراهيم الهلباوى ومحامو الفلاحين - وأبرزهم أحمد لطفى السيد - الذين اكتفوا بطلب الرحمة والشفقة بالمتهمين دون تقديم دفوع حقيقية أو السعى لتبرئة ساحتهم ودحض الاتهامات الباطلة التى ألصقت بهم، ليتم بعدها تنفيذ الأحكام بالإعدام شنقاً والجلد والسجن على الفلاحين فى 27 يونيو 1906 فى غيبة الذين تلاشت أصواتهم أمام أصوات الأسلحة. ووصلت الادعاءات الكاذبة مداها بالسير إدوارد جراى وزير الخارجية البريطانى حينئذ، بقوله فى مجلس العموم إن هناك تطرفا إسلاميا فى مصر، ورجا النواب ألا ينشغلوا بالشؤون المصرية وألا يسببوا ارتباكاً للقوات البريطانية وهى تواجه خطراً يتهددها هناك. وكانت كلماته رد فعل للتصدى للرأى العام الذى انقاد لأصوات عدد من أصحاب الضمائر اليقظة من الكتاب والنواب الإنجليز الذين تبرأوا من سياسة اللورد كرومر فى مصر، وهو ما دعا الزعيم مصطفى كامل للإعلان فى مقاله الشهير «إلى الأمة الإنجليزية والعالم المتمدن» بصحيفة «لو فيجارو الفرنسية» أن هذا الخطر المزعوم إنما هو من محض خيال اللورد كرومر، وليس إلا وسيلة يبرر بها المسؤولون الإنجليز هذه الجريمة الأخيرة - يقصد حادث دنشواى - وجرائم أخرى يحتسب لوقوعها فى المستقبل. مؤكداً أنه لا وجود لهذا الخطر، وأن الفظائع التى ترتكب ضد مصر ليس لها ما يبررها على الإطلاق. وقال: «أؤكد بحق أقدس شىء فى الدنيا أن التعصب الدينى غير موجود فى مصر، نعم إن الإسلام سائد فيها، لأنه دين الأغلبية، لكن الإسلام شىء، والتعصب شىء آخر. ووقع السير إدوارد جراى فى خطأ بالنسبة لهذه المسألة، وإنى أرجوه أن يفكر لحظة فيما يلى: هل لو كان فى مصر تعصب حقيقة فهل كان فى وسع إنجلترا أن تحاكم 25 مسلماً أمام محكمة استثنائية مؤلفة من أربعة قضاة مسيحيين، وقاض واحد مسلم؟ وهل تنفيذ الحكم فى دنشواى بتلك الصورة المثيرة، لم يكن يكفى وحده لإشعال نار التعصب المدمرة والصاعقة، لو كان له وجود؟ وأكد أن من حق المصريين أن يطلبوا تحقيقاً جاداً وكاملاً فى هذه المسألة، ومصر تقع على بعد رحلة يومين من أوروبا، فليأت إليها الإنجليز المحبون للعدل، والذين يرغبون فى عدم تلطيخ شرف إنجلترا، وليذهبوا إلى المدن، وإلى القرى، وليروا بأنفسهم كيف يعيش المسيحيون من كل جنسية مع المصريين، ولكى يقتنعوا بأنفسهم بأن الشعب المصرى ليس متعصباً أبداً، لكنه ينشد العدل والمساواة، وأن كل ما يطلبه هو أن يعامل كشعب وليس كقطيع. وأشار مصطفى كامل إلى دفاع اللورد كرومر عن نفسه فى تقريره الأخير ضد الذين يطعنون فى السلطة المطلقة التى يتصرف بها فى شؤون مصر قائلاً: إن البرلمان والرأى العام فى إنجلترا يراقبان أعماله، وتراقبها كذلك الصحافة المصرية، ولكنها مراقبة وإشراف خياليان، إذ إنه ما كاد البرلمان الإنجليزى يعترض على مثل هذه الأعمال المتبربرة، حتى يقول كرومر للسير إداورد جراى إن التعصب يزداد حدة على ضفاف النيل، وأنه يجب على البرلمان أن يلزم الصمت، وبهذه الطريقة، ليس هناك ما يمنع كرومر من أن يستمر فى حكم مصر بأشد القوانين الظالمة. ورد الزعيم المصرى على ادعاء جراى بقوله: «كل الذين يحبون الصدق والعدل، يعترفون بأن مسألة دنشواى لم تنتج أبداً عن حركة معادية للأوربيين، وأن المصريين هم الشعب الأكثر تسامحاً فى العالم». ومن الطبيعى أن نتعاطف مع الشعوب الإسلامية، وهذا التعاطف ليس فيه تعصب، ولا يوجد مسلم مستنير واحد يظن فى إحدى اللحظات أنه من الممكن اجتماع الشعوب الإسلامية فى رابطة واحدة، توجه ضد أوروبا، أما الذين يقولون ذلك فهم إما جاهلون، وإما يرغبون فى إيجاد هوة بين العالم الأوروبى والمسلمين. أما ما كتبه الكاتب الإيرلندى الشهير برنارد شو تحت عنوان فظائع دنشواى فى مقدمة مسرحية جان بول الأخرى وترجمه الدكتور عبدالقادر القط فيكشف بسخرية المنطق الهش الذى استند إليه الاحتلال فى تبريره لمذبحة دنشواى، حيث يقول إن التقرير الرسمى الإنجليزى ذكر أن محمد عبدالنبى مؤذن القرية أشعل النار فى جرن القمح فى إشارة إلى اشتعال العالم الإسلامى كله بالثورة، لافتاً إلى أن إدوارد جراى وزير الخارجية البريطانى وقتها ناشد البرلمان بحرارة ألا ينتقد الأحكام الصادرة بحجة أن عبدالنبى وحسن محفوظ ودرويش وباقى المتهمين كانوا طليعة مؤامرة إسلامية ضخمة للثورة ضد المسيحية باسم النبى محمد لمحوها من أفريقيا وآسيا عن طريق حركة عصيان تكاد تكون صورة هائلة من حركة العصيان الهندية ووصف برنارد شو ذلك بأنه أعذار خيالية.