بينما نحن منشغلون بكثير من الملفات الإقليمية الملتهبة والداخلية الساخنة، تجري متغيرات كثيرة في العالم من شأنها أن تؤثر علينا بشكل أو آخر.. وأخطرها علي الإطلاق مالياً واقتصادياً أن اليورو «العملة الأوروبية الموحدة» قد تراجعت إلي ما دون 1.2 من الدولار في اليومين الأخيرين.. وكان مستوي ال1.2 لليورو مقابل الدولار نقطة لم يتم التراجع إليها قبل أربعة أعوام. هناك تضارب كبير في الآراء بين الماليين في أوروبا حول تأثيرات هذا التخفيض، الذي ساهمت فيه إجراءات متعددة.. بينها المقصود سياسياً واقتصادياً .. وبينها الناتج عن حركة الأسواق بعُيد الإجراءات التي تم اتخاذها لعلاج مشكلات الديون المتفاقمة في عدد من بلدان أوروبا الجنوبية.. وعلي رأسها اليونان. بعض الآراء يري أن ما يجري يقود إلي انهيار منطقة اليورو برمتها.. وسقوط العملة الموحدة.. وبعضها يري أن إجراءات التقشف التي اتخذت في عدد من البلدان الأوروبية مع تخفيض اليورو والاتجاه إلي تحصيل مزيد من الضرائب هو أمر سابق لأوانه.. وكان ينبغي أن يتم بعد فترة ومع اقتراب تعافي الاقتصاد العالمي من أزمته.. لأن تلك الإجراءات تقود إلي تخفيض مستوي النمو ومعدلاته. لقد وضع اليورو مرتفع القيمة مقارنة بالدولار، أوروبا في موقف صعب عالمياً.. طيلة سنوات.. إذ فضلاً عن الغلاء الذي ضرب الأسواق الأوروبية.. فإنه بوضعه السابق أفقد أوروبا ميزتها التنافسية في مواجهة الولاياتالمتحدة.. ما أدي إلي تراجع الصادرات نسبياً.. لأن التقييم السعري بيورو مرتفع يؤدي إلي ارتفاع الأسعار وعدم القدرة علي اجتياز الأسواق.. وهو ما منح الفرصة للصين كي تحتل المركز الثاني في التجارة العالمية.. إلي درجة أن بعض أصحاب نظرية المؤامرة يرون أن الولاياتالمتحدة دفعت اليورو إلي هذا المستوي لكي تبقي أوروبا الموحدة بعيدة عن منافستها. الآن، اليورو انخفض.. ولهذا تأثيراته.. إذ سوف تندفع ألمانيا إلي الأسواق علي اعتبار أن 40% من صادراتها خارج منطقة اليورو.. الأمر نفسه بالنسبة لفرنسا.. وهما أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في أوروبا.. وقد يعني هذا بالنسبة لمصر أنها يمكن أن تشتري قمحاً فرنسياً بأسعار أقل.. أو صادرات أخري من مختلف دول أوروبا.. كما قد يعني أن تقييم أسعار صادراتنا إلي أوروبا سوف يتعرض للتخفيض. إن زيادة الصادرات الأوروبية بسبب انخفاض اليورو قد يكون لها تأثير ملموس علي حركة التجارة القادمة من الشمال إلي الجنوب، عبر قناة السويس.. لكنه من جانب آخر يعني أن السائحين الأوروبيين الذين يجدون في بلدنا مقصداً رخيصاً بتقويم سعر الخدمات بيورو مرتفع.. سوف يفضلون السياحة في أوروبا مع انخفاض التكاليف.. وهذه أيضا مسألة تستوجب النظر. نحن نستفيد من استقرار دول جنوب أوروبا اقتصادياً.. خاصة أن إيطاليا وهي من أكبر الشركاء التجاريين لمصر سوف تستفيد من ذلك.. كما يفيد اليورو المنخفض أوضاع اليونان.. لأن الديون التي سببت أزمتها تقوم الآن بأسعار جديدة.. وكذلك الحال في إسبانيا التي أقرت مؤخراً خطة تقشف ب15 مليار يورو. وعلي المستوي المالي يبدو أن البنك المركزي المصري كان قد انتبه إلي الحالة التي عليها السوق في أوروبا ومنطقة اليورو، وبدأ منذ فترة في تحويل ما لديه من الاحتياطي النقدي باليورو إلي الدولار.. خشية خسائر متوقعة.. وإن كان هذا الأمر يستوجب قدراً من الشفافية والإفصاح.. لكن الموقف في مصر ليس كما هو الحال في إيران التي اتجهت في الأيام الأخيرة إلي تحويل 45 مليار يورو إلي الدولار والذهب.. إذا كانت قد لجأت لأسباب سياسية إلي تحويل كل الاحتياطي تقريباً إلي اليورو نكاية في الولاياتالمتحدة.. وهو ما كان يكلفها الكثير من فروق التحويل.. غير أنها اضطرت الآن إلي التخلي عن القرارات ذات الأبعاد السياسية لحماية الاقتصاد. لقد انخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار في الأيام الأخيرة... وارتفع الدولار إلي ما يزيد مليمات علي 5.65 جنيه.. فهل كان هذا مقصوداً من السلطات النقدية.. تحسباً للمتغيرات التي تجري في الأسواق القريبة.. أم أنه أمر ناتج عن متغيرات لم تكن خاضعة للسيطرة.. والسؤال الأهم: هل نحن نحتاج إلي تخفيض قيمة الجنيه.. لكي نكون أكثر مرونة في مستوي الصادرات لأوروبا ولكي ندعم حركة السياحة.. أم أن هذا ليس مطلوباً؟ وليس علينا أن نناقشه؟.. خاصة أن له تأثيرات داخلية في مستوي الغلاء وارتفاع معدل التضخم.. لاسيما أن الرأي العام يتعامل مع مصطلح «تخفيض العملة» علي أنه شر مستطير.. في ضوء نقص الثقافة الاقتصادية العامة. لماذا لا تتكلم الحكومة مع الشعب.. أو لنقل أن عليها أولاً أن تتكلم مع نفسها.. وهل درست متغيرات ما يحدث في أوروبا بجدية.. فهل فعلت.. أم لم تفعل بعد.. إنني شخصياً أتمني أن أكون كمن يدق جرس تنبيه متأخر.. وأن تكون الحكومة قد احتاطت لما يحدث.. ولن تكون الأمور مفاجئة بالنسبة لها. عموماً، الأوضاع في أوروبا لم تستقر بعد، والجميع ينتظر حكم الدستورية الألمانية بشأن ال750 مليار يورو التي قررتها ألمانيا لإنقاذ منطقة اليورو.. ومواقف الدول الأوروبية المديونة والمتعثرة.. كما أن الأوضاع المالية تعاني من ارتباك.. ولا يلوح في الأفق أن هناك سيطرة كاملة علي الأوضاع في منطقة اليورو،. وأن الماليين حائرون إلي حد كبير.. وبينهم وجهات نظر متناقضة.. حسب المدارس الفكرية والسياسية.. وحسب انتمائهم لأي من الدول أصحاب المصالح.. وحسب ضغوط السياسيين علي القرار الاقتصادي. لا نعيش في هذا العالم وحدنا.. وقد نكون في قلب دائرة التأثر الإيجابي بما يجري.. أو قريبين من دائرة التأثير السلبي.. أو ربما لن نتأثر علي الإطلاق.. المهم هو أن نشعر أن الحكومة والسلطات النقدية علي درجة كافية من الانتباه الواجب للأمر. [email protected] www.abkamal.net