شهد المجتمع المصري منذ عام 2004م العديد من الحركات الاحتجاجية، بعضها سياسي مباشر مثل الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، وبعضها مطلبي اجتماعي معيشي مثل الاعتصامات والاحتجاجات التي باتت تجد في شارع قصر العيني ملاذا لها، فضلا عن حركات احتجاجية أكثر تنظيما مثل الحركة الشعبية التي نشأت لمقاومة مشروع أجريوم، وضمت كل القوي السياسية والحزبية. وقد اعتبر كثير من الكتاب والباحثين أن هذه الحركات تعبير ايجابي عن الحراك السياسي في مصر. وإذا نظرنا بقدر من الرصد والتحليل سوف نكتشف أن هذه الحركات نشأت لعدة أسباب مباشرة أبرزها: غياب الإطار الحزبي الفاعل الذي يستطيع أن يستوعب ويعبر عن مطالب الجماهير، فضلا عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي باتت تنهال علي قطاعات واسعة من المجتمع بمطرقة الارتفاع المستمر في الأسعار، وارتفاع معدلات البطالة، وغياب القدرة علي التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه السوق في الأمد المنظور. وبرغم المظاهر الايجابية التي تمخضت عن الحركات المطالبة بالتغيير السياسي، فإن كثافة الحديث حولها ومن خلالها، فضلا عن الخلافات والمعارك بين أعضائها أربك الحوار الديمقراطي في المجتمع، وأثقل المجال العام بأحاديث هي أبعد ما تكون عن أهداف وغايات هذه الحركات. خذ مثالا علي ذلك حركة «كفاية» فقد قامت هذه الحركة تحت شعار «لا للتوريث.. لا للتمديد»، ثم انتهي بها الحال إلي عقد محاكم تفتيش لأعضائها، والمبارزة بتهم العمالة والخيانة. أي تغيير يمكن أن تتمخض عنه أو تدعو إليه هذه الحركة؟ القضية-في تقديري- لا تتعلق بالأهداف أو النوايا بل تتعلق في المقام الأول بالثقافة السياسية، وهو مجال مهم ينبغي أن يأخذ حقه من البحث والتفكير والتأمل في المجتمع. الثقافة السياسية المصرية ظلت لعقود طويلة نخبوية، بمعني أنها تخص مجموعات محدودة من الأفراد تعمل في الأطر الحزبية المختلفة، وفي أضيق نطاق، ساعد علي ذلك ضيق الإطار الحزبي ذاته، وعدم قدرته علي تطوير نفسه. ترتب علي ذلك أن سادت في السياسة المصرية ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة الغرف الضيقة»، أي الثقافة السياسية التي تتعلق بالمزاحمة، والمشاغبة، والإزاحة بالأكتاف، والتسلق علي ظهور الآخرين، وهي ثقافة سارية في المجتمع المصري بجميع تياراته وفصائله. الكل في الهم سواء، لا فرق بين فصيل وآخر، وعادة ما يكون الاختلاف في الطريقة أكثر ما يكون الاختلاف في الممارسة ذاتها. والكل في المزايدة سواء. من هنا فإنني أعتقد أن حركات التغيير الديمقراطي التي نشأت في عام 2004م، ثم وهنت، واستمرت تتكئ علي عكاز التخوين والتشكيك لم تعد قادرة ليس فقط علي بث فكر التغيير، ولكن أكثر من ذلك المساهمة في إرساء ثقافة سياسية تقوم علي احترام الاختلاف، وقبول الرأي المختلف. وكما يقال في الحياة «سبحان من له الدوام»، وإكرام الميت دفنه، في الحياة السياسية فإن الحركات والتكوينات والهياكل والمؤسسات والمنظمات، قل ما شاءت من أوصاف، عندما تفقد مبرر وجودها علي الحياة، فإنه من الأفضل دفنها بإكرام، وطي صفحتها، والتعلم من خبرة الممارسة فيها، ثم الدخول في مرحلة أخري مختلفة... لم يعد ممكنا، وهذه هي إحدي إشكاليات المجتمع المصري، أن نبقي علي تكوينات سياسية لم تعد أكثر من لافتة، المطلوب هي الحيوية، والتغيير، هكذا تكون خبرة المجتمعات الراغبة في التطوير. مؤسسات تنشأ ثم تتغير، تجمعات تلتئم ثم تتفرق، وهكذا تكون الديناميكية، أم نحن نظل علي جمودنا، ونبقي علي ممارسات ثبت فشلها، ونحتفي بأخطائنا، ونظل بلا فعالية، فقط أسماء، مجرد أسماء.