ملاحظات ختامية علي مقالي رئيس مجلس إدارة الأهرام تظهر التعليقات التي تلقيتها علي مقالي اليومين الماضيين حاجتنا إلي النقاش الموضوعي الحر، الهادف إلي المصلحة العامة، وتكشف ترحيب المجتمع بمثل هذا النقاش.. خاصة حين يتعلق الأمر بقضية خطيرة مثل (تحدي النيل).. وبالتأكيد فقد اكتشف الجميع أن هدفي من تلك المناقشة المعلقة علي ما كتب الزميل القدير الدكتور عبدالمنعم سعيد، مرة يوم السبت الماضي، ومرة ثانية في الاثنين التالي، لم تكن دعوة خاصة للمبارزة.. وأن هي-كما ذكرت بالأمس- دعوة عامة لإعمال العقل، بنائيا، في ملفات حيوية تشغل الرأي العام وتتعلق بمصالح البلد الحقيقية.. بدلاً من السفسطائيات المبعثرة في صغائر شغلتنا كثيراً عما هو مهم. لكن (إعمال العقل) لا يعني قيادته إلي الانتحار تأثراً بالصدمة.. ومراجعة السياسة التي قد تسفر عن اكتشاف (التقصير) لا تستهدف البحث عن (كبش فداء).. كما أن البحث عن حلول مختلفة ومبدعة للتحديات التي (لم تكن مفاجئة) لا ينبغي أن يدفعنا إلي (شطحات) غير مجدية.. أو التنازل عن ثوابت استراتيجية.. أو الرضوخ لتهديد ولو كان مستتراً. لقد استوقفني في المقال الثاني للدكتور عبدالمنعم سعيد أنه قال في ختامه ما يلي: (هناك حدود لقدرات الدول الإقليمية حتي لو كانت بحجم وأهمية مصر في التعامل مع إقليمها، لأن للدنيا كلها مفاتيح عالمية لابد من البحث عنها واستثمارها، وعندما يخص الأمر مياه النيل فإنه لابد من دفع الثمن اللازم لها حسب الأسعار التي تحددها طبيعة العلاقات الدولية). هذا كلام من الخطورة بحيث إنه لايمكن أن يمر دون تحليل.. فالمطروح هنا يناقض التصور الكامل الذي عرض له الكاتب الزميل بشأن ضرورات التحول إلي (الدائرة النيلية) وما يفهم منه أنه دعوة للتخلي عن دائرة المشرق العربي.. وبشأن تأسيس علاقات التنمية والشراكة بين مصر وبلدان حوض النيل.. كما لو أنه يطيح بكل ما طرح.. وصولاً إلي اقتراح حل ناجع لا يري له بديلاً.. وهو أن نبحث عن المفاتيح التي يمكن أن تفك المغاليق المؤصدة.. وندفع لها الثمن.. لينتهي الأمر. وأرجو ألا يكون المقصد النهائي لمقالي الدكتور عبدالمنعم هو هذا التبسيط الأخير.. إن عبارة (لابد من دفع الثمن حسب الأسعار التي تحددها طبيعة العلاقات الدولية) قد تعني قبول ما يمكن وصفه بالابتزاز.. وقد تعني الرضا بمنطق يتردد في دول حوض النيل بشأن التعامل مع الماء كما يتم التعامل دولياً مع النفط.. يكون له سعر وبورصة.. وإن كنت أتمني ألا يكون المعني هو أن علينا أن نقبل بسيناريو مطروح يقضي بأن تقوم إسرائيل بتهدئة دول حوض النيل مقابل أن تحصل علي كمية قليلة من المياه تصلها عبر مصر.. حين يحل موعد المجاعة المائية الإسرائيلية بعد أربع سنوات. لست عاطفياً إلي الدرجة التي تمنعني من قبول منطق أن العلاقات الدولية تقوم علي النفعية، وتحقيق المصلحة، ولست من السذاجة بحيث إنني أرفض أن العلاقات الدولية تخلو من الابتزاز، ولكنني من الإيمان بالقدرات الوطنية المصرية والثقة في إمكانياتها بحيث لا أقبل الخضوع لمثل تلك السيناريوهات ولو كانت أفكاراً يلوح بها في الكتابات المختلفة خارج مصر. تشخيص الموقف في ملف النيل وفق قراءتي يقوم علي المفردات التالية: (معاناة في دول حوض النيل احتياج للتنمية مشاعر قومية متصاعدة تنظر إلي مصر باعتبارها قوة متعالية تستفيد مما لاتستحق قوي دولية مختلفة الأهداف تستثمر علي نطاقات واسعة في اتجاهات مختلفة من أفريقيا ومن بينها دول حوض النيل مطامع عديدة في المياه التي تتوافر في الحوض تقصير مصري خلاف قانوني مع دول الحوض تهديد لمصالح مصر من قبل أطراف مختلفة عن قصد أو عن غير قصد، سواء في المياه أو في غيرها من الملفات عن طريق المياه والمحصلة هي الموقف الحالي المرشح للتصاعد أو لإمكانات التسوية). حول هذا التشخيص هناك مجموعة متنوعة من علاقات وتفاعلات القوي.. الإقليمية والدولية.. وبما في ذلك دول عربية شقيقة.. وبناء عليه فإنني أسجل الملاحظات الأخيرة وليست النهائية التالية: • يتوزع إيراد المياه في دول الحوض بين نوعين من المياه.. النوع المسمي (بالمياه الخضراء) وهو الوارد طبيعياً من الأمطار.. ويروي المناطق المزروعة ومناطق الرعي.. والنوع المسمي (بالمياه الزرقاء) أي الوارد في مياه النهر التي توزع علي الدول وفقاً للاتفاقيات القانونية التاريخية التي لايمكن هدرها.. والنوع الثاني قد لاتزيد نسبته علي 5% من حجم المياه الواردة إلي دول الحوض.. وأعتقد أن استراتيجية التحرك لابد أن تنبني علي إخلاء المياه الزرقاء من تقاطعات الخلافات.. وترقية معدلات الاستفادة من المياه الخضراء بما يحقق المصالح المشتركة بين كل بلدان الحوض. • ما علينا أن نناقشه هو أهمية ترقية ورفع مستوي أداء المؤسسات المصرية المختلفة بما في ذلك مشاركة القطاع الخاص المخلص وليس الذي يسقع الأراضي حتي في حوض النيل لكي نعين ونستعين.. وبحيث تتحقق الفائدة التي تخرج المياه الزرقاء من أن تكون محل خلاف.. فهل لدينا القدرة علي حفر مزيد من الآبار.. وهل لدينا القدرة علي المعاونة في زراعة مزيد من الأرض.. وهل نسينا مشروعات الربط الكهربائي مع دول الحوض.. إن علينا أن نبدأ النقاش من نقطة قبول عدد من الوزراء السفر إلي الدول الأفريقية من عدمه.. بدون أن يكون هذا، بإجماليه، دعوة مني إلي التخلي عن دوائر مصالحنا الحيوية الأخري. • علي سبيل المثال، وفي الكيلو متر رقم واحد من طول نهر النيل، في منطقة جنجينا في أوغندا، يوجد مقياس للنيل، علي مقربة منه استراحة مفتش ري مصري، يتابع إيراد النهر، وهذا من بين علامات تواجد تلك المؤسسة المصرية العريقة.. ولكن العلامات القائمة قد لاتعبر عن الأداء المطلوب.. وبالتالي لابد من طرح السؤال: هل أداء مؤسسة الري المصرية في الداخل والخارج علي المستوي الفني المطلوب.. هل تحتاج دعما.. هل تحتاج استنهاضاً للخبرات.. هل تحتاج تمويلاً إضافياً.. وما هي مصادره.. والأهم: هل ملف النيل مسئوليتها وحدها.. أم إنه كما يتفق الجميع الآن مسئولية مشتركة لعدد هائل من المؤسسات التي لابد من مراجعة آليات التنسيق والأداء فيما بينها والرؤي الاستراتيجية التي تحكمها؟ • نأتي هنا إلي النقطة التي دق عليها الدكتور عبدالمنعم سعيد مرتين في مقاليه، وهي تلك المتعلقة بالإمكانيات المحدودة لأي قوة إقليمية، والتي أرجو ألا يكون مقصده منها أن علينا أن ننكفئ علي ملف النيل بما أتيح لنا من قدرة.. وهي نقطة فيها منطق.. ولكن القدرة ليست فقط مالاً.. وإنما للقدرة عناصر متنوعة.. خاصة أننا لانسعي لأن نقدم أنفسنا كقوة عالمية.. أو قوة إقليمية تتجاوز حدودها.. ولكننا أيضا لسنا قوة إقليمية عليها أن تقبل بعرض الحصار.. أو ترضخ لعروض المفاتيح التي تريد الأثمان. لقد تعرضت الدولة المصرية مرات عديدة في العقود الستة الأخيرة لتحديات طلب من فرضوها أن ندفع أثمانا لكي ترفع عنا.. وفي مرات مختلفة كنا نخوض التحدي بدون أن ندفع الثمن.. لأن الأثمان ليست كلها شرعية.. ولأن لدينا طرقاً مختلفة في عبور التحديات.. وأعتقد جازماً أن دور العقل الوطني هو أن يطرح علي صانع السياسة رؤي مبدعة.. ليس من بينها الرضوخ للابتزاز وقبول دفع الثمن لكي تنفتح المغاليق المفاجئة. إن لدي هذا الوطن قدرة.. وهو يستطيع أن يفرض علي الآخرين أن يدفعوا بدورهم الأثمان.. والقدرة لها تجسيدات مختلفة. وختاماً لهذه التعليقات الثلاثة .. تحية للزميل الدكتور عبدالمنعم سعيد. [email protected] www.abkamal.net