هناك مساحات في آليات التفكير في العقل البشري يعجز العلم في معظم الأحيان عن إلقاء الضوء عليها، في هذه الحالة تتقدم الحكاية الشعبية والحدوتة لتتكفلان بهذه المهمة وسد هذه الفجوة لشرح ما قد يعجز العلم عن شرحه بغير تعقيد بحيث تصل إلي كل البشر. معي لكم هذه المرة، حدوتة شعبية مصرية، الحدوتة الشعبية تحكي عن (بغلة) تسمي بغلة العرش، يقول الرواة إنها تأتي قادمة من السماء في شهر رمضان المبارك، يقال أنها تهبط في ليلة معينة لا أحد يعرفها، حاملة علي ظهرها كنزا من الذهب والجواهر والأحجار الكريمة في جوال كبير، تهبط علي قرية صغيرة أو نجع فقير، تمشي في هدوء في أزقة القرية وحواريها المظلمة ثم تتوقف في عشوائية أمام أحد الأبواب، تدق عليه بحافرها في لطف، فيفتح ساكن البيت ليري من الطارق، إذا كان من الموعودين فسيدرك علي الفور أن ما يراه أمامه هو بغلة العرش، وأن هذا الذي تحمله هو كنز، وأن هذا الكنز مرسل إليه، وأن ما حدث له هو بالضبط ما تسميه الناس المعجزة، علي الفور يرحب بالبغلة ويعاملها بلطف ويأخذ الكنز من عليها، فترحل مختفية في ظلام القرية. هذه هي الحكاية كما قصها علي الصديق الروائي خيري شلبي منذ ثلاثين عاما. هذا الشخص يستحق الكنز لأنه كان قادرا علي إدراك المعجزة وتلقيها. بالتأكيد لديه معرفة سابقة بحدوتة بغلة العرش، ومن المحتمل أنه يعرف كل حواديت التاريخ، غير أنه بالقطع كان موعودا لأنه كان قادرا علي قراءة المعجزة. هذا هو علي ما أتصور ما أراد الأجداد أن يقولوه، هذه هي رسالتهم لنا. ولكن لنفرض أن البغلة طرقت باب شخص عاجز عن إدراك المعجزة؟ ليس من الصعب تصور ما كان سيحدث، سيطردها بعيدا بغضب فتذهب لآخر يستحق المعجزة. الآخر هنا، قد يكون شخصا أو جماعة أو شعبا. علينا أن نتقبل في شجاعة وهدوء حقيقة مؤلمة، هي أن الناس تضيع وقتا طويلا قبل أن تتعلم القراءة، هذا هو بالضبط ما يجعل الكثيرين عاجزين عن إدراك ما صنعه السادات. في عصرنا هذا لم تعد السماء مسئولة عن صنع المعجزات، كان ذلك يحدث فقط في الأزمنة القديمة عندما كان الجنس البشري جاهلا ضعيفا لا حول له ولا قوة. ولكن في زمننا هذا، فلدي من الأسباب ما يجعلني أعتقد أنها أوكلت إلينا نحن البشر أداء هذا الواجب. الناس معجزات تمشي علي الأرض وعلينا أن نحترم هذه المعجزات. الحياة اليومية لكل مخلوق معجزة، وعلينا أن نحافظ علي كل هذه المعجزات. إنني أعجب من هؤلاء العاجزين عن إدراك المعجزة في أنفسهم وفي كل لحظة تمر بنا من لحظات الحياة، أنا شخصيا علي وعي كامل بأنني أعيش في كون امتلأ بالمعجزات وأنها تملؤني وتملأ حياتي، وبالتدريب الشاق الطويل، أزعم أنني اكتسبت القدرة علي قراءة المعجزة، أزعم أنني قادر علي التعرف علي بغلة العرش عندما تطرق بابي، وأستطيع طوال الوقت أن أمد يدي وأمسك بالكنز الذي تحمله ثم أقوم بتخزينه في عقلي وقلبي. لذلك أنا أنصحك ألا تسكن في الأدوار العلوية، فبغلة العرش عاجزة عن صعود السلم كما أن أمن البناية لن يسمحوا لها بالصعود في الأسانسير، ولذلك أنا أنصحك بأن تسكن في دور أرضي بابه مفتوح علي الشارع، عموما الأمر يعود إليك، إنت حر.. أنا حريص فقط علي أن تعرف البغلة طريقها إليك.