هناك فرع من فروع المعرفة لا غني عنه لمن يدرسون العلوم السياسية وهو الحكاية الشعبية بكل أنواعها. إنها الطريقة الوحيدة للتعرف بشكل مباشر علي حركة العقل البشري وخبراته علي مر التاريخ وهو ما سيحفر بداخل عقولهم ملامح لا تنسي عن الإجراء السياسي الصحيح في مواجهة مشكلة ما. أعترف بالطبع بأنه لا توجد إجابة بعينها صالحة في عالم السياسة للتطبيق في كل وقت، غير أن الأساطير والحكايات الشعبية ممتعة وغنية بما فيه الكفاية لكي تتحول إلي غريزة سياسية داخل عقول دارسي السياسة تساعدهم علي التعرف علي القرار الصحيح في كل حالة، هذا بالطبع مع افتراض أن الدارس لم تحدث له عملية غسل مخ أفقدته القدرة علي الرؤية الموضوعية. الحدوتة هذه المرة من الصين القديمة، من عهد الإمبراطوريات، انهالت الشكاوي من عديد من أهالي القري علي القصر الإمبراطوري تطالب بحمايتهم من نمر شرس يسكن الغابة القريبة منهم ويهاجمهم عند ذهابهم إلي حقولهم وعودتهم منها. استدعاهم الإمبراطور إلي القصر واستمع منهم لشكواهم بنفسه ثم اتخذ قرارا علي الفور وقام بتنفيذه أمامهم، استدعي كبير الحجاب وقال له: اكتب يا سيدي.. قرار إمبراطوري رقم كذا.. من إمبراطور الصين إلي النمر اللئيم الذي يهاجم سكان القري الأبرياء في غدوهم ورواحهم.. يتعين عليك أن تخجل من نفسك وأن تتوقف عن هذه المهزلة فورا وإلا اتخذت ضدك إجراءات أشد، وعاقبتك عقابا تشيب لهوله الولدان. ثم قال لرئيس الحجاب: اتفضل.. روح سلّمه القرار ده.. ومضّيه عليه.. دلوقت، فورا.. فقال الرجل: حاضر يا مولاي.. خرج كبير الحجاب من القصر ومعه حشد كبير من سكان القري، وبالقرب من الغابة توقفوا هم وتقدم الرجل إلي أن أصبح علي بعد أمتار من الغابة، عندما شم النمر روائح كل هذا العدد من البشر خرج من الغابة وهو يمني النفس بوجبة شهية، كان رئيس الحجاب واقفا في ثبات، فدهش النمر الذي تعود علي فرار الناس منه عند رؤيته، فتوقف هو الآخر في مكانه وهنا تقدم منه الرجل بخطوات بطيئة واثقة ومد له يده بالقرار، لم يكن النمر قد شاهد من قبل قرارا إمبراطوريا فظنه نوعا من البسكويت أو نوعا من المقبلات فاتحة الشهية فخطف القرار وأخذ يمضغه ببطء وبعد أن انتهي من ذلك قفز علي الرجل وأخذ يلتهمه في استمتاع. ممارسة الأعمال المكتبية لسنوات طويلة من الممكن أن تدفع للخطأ السياسي، ليست كل المشاكل يمكن حلها بالمراسلات ، كما أن هناك مخلوقات لا تعترف أصلا بالكلمات والقرارات، وستكون كل وظيفتها التهام هذه القرارات والتهام من يحملها إليهم، والقرار الصحيح من الإمبراطور كان يتطلب إصدار الأمر بالقضاء علي النمر ليس بالكلمات أو الأوامر بل بالفعل المباشر. الحدوتة هنا لجأت للصورة الكاريكاتيرية أي للمبالغة الشديدة في رسمها للواقعة، إذ إنه من المستحيل علي أي مسئول أن يتخذ هذا القرار المعروف سلفا نتائجه، غير أنها تشير في صدق لما يمكن أن يصيب آليات التفكير من خلل في مواجهة مشكلة جديدة تتسم بالخطر. لقد توقفت الحدوتة عند قتل كبير الحجاب، لم تتحدث عن المشاهد التالية وتركت لنا تخيلها، أنا شخصيا أتخيل من سيقول إن القرار كان صحيحا وأن الخطأ كان أن النمر لا يجيد القراءة وهو ما يحتم القيام بعمل مشروع جديد لمحو أمية النمور وبقية حيوانات الغابة لعدم تكرار هذا الحادث، والله أنا أعرف أشخاصا يقولون ماهو أغرب من ذلك.