انسحبت القوات الإيرانية أم لم تنسحب من البئر النفطية في حقل الفكة جنوب العراق. اراد النظام الإيراني تسجيل نقطة وقد نجح في ذلك إلي أبعد حدود، خصوصا بعد إعلان غير نائب ومسئول عراقي أن البئر تقع في منطقة حدودية متنازع عليها وليست داخل الأراضي العراقية. من تحدث، من بين العراقيين، عن منطقة متنازع عليها اراد دعم الموقف الإيراني. أليس وصف "الأرض المتنازع عليها" هو الوصف الذي يطلقه المسئولون الإسرائيليون علي الضفة الغربية؟ كل ما تريده إيران هو تثبيت ان لها حقوقا في مناطق نفطية عراقية لا أكثر ولا أقلّ. عاجلا أم آجلا، سيضطر المسئولون العراقيون إلي الدخول في مفاوضات معها من أجل ضمان حصة لها من انتاج الحقول النفطية في جنوب العراق. هذا هو بيت القصيد. بكلام أوضح، تعتبر إيران أن لديها حقوقا في العراق وأن الحدود التاريخية القائمة بين البلدين لم تعد قائمة منذ حصول الاجتياح الأمريكي لهذا البلد واسقاط النظام القائم فيه. ما حصل بالنسبة إلي البئر النفطية تتويج لجهود بذلتها ايران منذ فترة طويلة لإسقاط النظام العائلي - البعثي في العراق. الآن جاء وقت قطف ثمار هذه الجهود التي شملت المشاركة بطريقة غير مباشرة في الحرب الأمريكية علي العراق. لم تقتصر المشاركة علي رص صفوف المعارضة العراقية في مرحلة ما قبل الحرب تلبية للمطالب الأمريكية فحسب، بل تجاوزت ذلك إلي تقديم تسهيلات إلي القوات الأمريكية في اثناء الغزو ثم توفير غطاء سياسي للقرارات التي اتخذتها سلطات الاحتلال في مرحلة ما بعد سقوط بغداد. من بين تلك القرارات تشكيل مجلس للحكم المحلي علي أسس طائفية ومذهبية وقومية تكرس تهميش السنة العرب لمصلحة الاحزاب الشيعية التي كانت قياداتها في إيران من جهة والأكراد من جهة أخري. المسألة اذا ليست مسألة خلاف حدودي بين البلدين. المسألة أبعد من ذلك بكثير. انها مرتبطة بمدي النفوذ الإيراني في العراق في المستقبل المنظور. إنها بكل صراحة مسألة تأكيد أن هناك منتصرا واحدا في الحرب الأمريكية علي العراق. هذا المنتصر هو إيران التي استطاعت اخيرا تغيير الحدود القائمة بين البلدين وتعديلها لمصلحتها في غياب حكومة عراقية قادرة علي اتخاذ موقف واضح من احتلال البئر النفطية ومن الاجتياح الإيراني لمحافظات جنوبية في العراق وحتي لبغداد نفسها. أدي الاجتياح الإيراني لمناطق ومدن وبلدات عراقية إلي تغيير الطبيعة السكانية في هذه المناطق والمدن والبلدات. حصل ذلك عن طريق تجنيس أكبر عدد ممكن من الإيرانيين في العراق، بحجة ان هؤلاء من أصول عراقية... أو عن طريق شراء الأراضي بأسعار تفوق سعر السوق في بعض الاحيان. وهذه عملية ترافقت مع عملية من نوع آخر تمثلت في التطهير العرقي لأحياء معينة في بغداد أو مناطق أخري. بغداد كانت مدينة نصفها سنّي والنصف الآخر شيعي. النسبة، بعد ست سنوات ونصف السنة علي الحرب الأمريكية ان النسبة تغيرت لمصلحة الشيعة الذين باتوا يشكلون نسبة سبعين في المائة من سكان العاصمة العراقية. استطاعت إيران استخدام الغرائز المذهبية المكبوتة في الوقت المناسب من أجل الانتقام من العراق وتغيير التوازن الإقليمي الذي يعتبر العراق ركيزة من ركائزه منذ مطلع العشرينيات من القرن الماضي. لا شك أن النظام السابق يتحمل جزءا كبيرا من المسئولية فيما آلت إليه أحوال العراق، خصوصا بسبب تصرفاته في الداخل وحيال جيرانه. كانت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت ثماني سنوات ثم احتلال الكويت خير دليل علي مدي رعونة الرئيس الراحل صدّام حسين وقلة معرفته في التوازنات الإقليمية والدولية وقلة إطلاعه علي ما يدور في العالم. لكن جانبا آخر من مسئولية تسليم العراق إلي إيران علي صحن من فضة تتحمله الولاياتالمتحدة وإدارة الرئيس بوش الابن تحديدا. هذه الإدارة تفوقت في جهلها بشئون الشرق الأوسط علي جهل نظام صدّام نفسه. كان الطفل يعرف منذ البداية أن الحرب الأمريكية علي العراق ستؤدي إلي خلل كبير علي الصعيد الإقليمي نتيجته الأولي تحويل مناطق عراقية معينة إلي دوائر نفوذ لإيران. تحقق الحلم الإيراني لحظة وطأ أول جندي أمريكي ارض العراق في مارس من العام 2003، الآن جاء وقت اختبار النيات. عندما يدخل مسلحون إيرانيون الأرض العراقية ويحتلون بئرا نفطية ثم ينفذون انسحابا جزئيا، فإنهم يجسون نبض الحكومة العراقية كما يجسون النبض الأمريكي. حتي الآن، تبين ان لا ردّ فعل عراقيا في مستوي الحدث وأن الأمريكيين لم يردوا سوي بالكلام. الأكيد أن رئيس الوزراء السيد نوري المالكي يفكر في الانتخابات المقبلة وقدرة إيران علي التأثير في هذه الانتخابات خصوصا في المحافظات الجنوبية وفي بغداد نفسها. ولذلك لا مصلحة لديه في الذهاب بعيدا في استعدائها حتي لو احتلت البئر النفطية. يدرك المالكي بكل بساطة أن مستقبله السياسي علي المحك وأن إيران قادرة علي القضاء عليه سياسيا لمصلحة منافسه إبراهيم الجعفري. أما الولاياتالمتحدة، فهي لا تدري ما تفعله في وقت بات عليها التركيز علي افغانستان وباكستان حيث هناك مخاوف حقيقية من فيتنام أخري، خصوصا في ضوء القرار الذي اتخذه الرئيس أوباما والقاضي بإرسال ثلاثين الف جندي اضافي إلي افغانستان. صار لحرب افغانستان اسم. إنها حرب أوباما. مستقبله السياسي متوقف علي نتيجة تلك الحرب التي لا تبدو إيران بعيدة عن لعب دور في اتجاه سيرها في ضوء العلاقة التي صارت تربطها ب"طالبان" و"القاعدة". كانت الخطوة الإيرانية القاضية باحتلال البئر النفطية العراقية، ولو لبعض الوقت، خطوة في غاية الدهاء. أكدت طهران بكل بساطة أن العراق، خصوصا جنوبه، منطقة نفوذ إيرانية وانها شريك في الثروة النفطية العراقية. في النهاية إن المخزون النفطي في الجنوب العراقي هائل... فيما الاحتياط النفطي للحقول الإيرانية يمكن أن ينضب بعد سنوات قليلة. من قال إن الولاياتالمتحدة في مواجهة مع إيران وتعارض تمدد نفوذها الإقليمي؟