لست من هواة الشعارات والكلام الكبير المزوق والمزركش! لست من قراء مقالات النضال والكفاح عَمَّال علي بطَّال، ولست من محترفي مشاهدة مغاوير العرب وهم يتحاورون ليلا بالسنج والمطاوي والسيوف الفكرية ورصاصات التخوين! وانتمائي للعروبة لا يعني أبدًا تجاهل أو تناسي تصرفات عربية حمقاء تصدر من بعض الإخوة العرب! وانتمائي للعروبة - بل وإيماني بها - لا يعني أبدًا التسامح أو التهاون إذا مس عربي ما كرامة بلدي مصر أو حاول إهانتها ولو بحرف ولا أقول بكلمة! العروبة.. العروبة.. العروبة.. العروبة! طوفان من الكلام والكتابة والحديث عن العرب والعروبة وبني يعرب والتاريخ والثوابت والاخوة والعادات والتقاليد! ليس من مفردات العروبة التخوين والتكفير، لكن بعض الإخوة العرب استسهلوا الكلام السخيف عن مصر وناسها وتاريخها ورموزها. لا يوجد رمز مصري واحد في السياسة والأدب والفن والرياضة إلا وحاول بعض الأشقاء العرب التشكيك في عروبته والنيل من وطنيته! إن ما جري مؤخرًا سواء من بلطجية وصبية الجزائر أو من بعض بلطجية الفضائيات العربية شيء مؤسف ومخجل ويدعو للأسي والأسف! باسم العروبة يهاجمون مصر ورموزها وعقولها وتاريخها! قبل 35 سنة وبالتحديد في 11 نوفمبر سنة 1974 من القرن الماضي خرج علينا الشاعر الكبير نزار قباني بمقال مختلف ومهم عن العروبة وأحوالها وسنينها.. كان مضمون المقال شيئًا جديدًا علي العقلية العربية التي أدمنت الوصفات الجاهزة لمعني العرب والعروبة! نزار قباني في مقاله وكان عنوانه نشكركم لأنكم كنتم عربًا وكانت مناسبة المقال انعقاد مؤتمر القمة في الرباط يقول: أعتقد أنه ليس من السهل أبدًا أن يكون الإنسان عربيًا! فالعروبة ليست ڤيتامينا.. أو هرمونًا.. أو بروتينًا.. نرضعه مع الحليب من أثداء أمهاتنا.. وليست إحساسًا غريزيًا أو فطريًا نرثه كما نرث ملامحنا النفسية والجسدية الأخري. لا يكفي أن تكون عيوننا سودًا.. وأن نرتدي كوفية وعقالاً وعباءة مصنوعة من وبر الجمل.. وأن يكون علي ذراعنا اليسري وشم أزرق لسيف بن ذي يزن وهو راكب علي فرسه لإثبات انتمائنا إلي العرق العربي. كما أنه لا يكفي أن نتلثم علي طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي، ونتمنطق بالخناجر المعقوفة، ونقلقل بالقافات.. ونحتكر شرف النطق الضادات.. ونحفظ ألفية ابن مالك، وكتاب الأغاني، ومقامات بديع الزمان الهمذاني لنستحق الجنسية العربية. وليس من مستلزمات العروبة أن نتعاطي القهوة المرة.. وأن يكون في منازلنا.. مهباج بن، وسيف، وترس.. وحصان محالُ علي التقاعد.. وصور لجد العائلة بشاربيه الكثيفين اللذين تكنسهما الخادمة بالهوفر توفيرا للوقت. ويمضي الشاعر العربي نزار قباني قائلاً: إن العروبة ليست زيًا فولكلوريًا يرتديه راقصو فرقة الفنون الشعبية، ولا وصلة من الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية ولا جواز سفر مكتوبًا بالخط الديواني من اليمن إلي اليسار، وعلي غلافه نسر ذهبي يغطي بجناحه عشرة آلاف فدان! خمسون سنة وربما خمسمائة سنة مرت من عمرنا ونحن نحاول أن نكون عربًا فنفشل! نحاول أن نتسلق علي كلمة العروبة.. فنتزحلق! نحاول أن نقدم شهادة حسن سلوك للعالم.. فيرميها في وجهنا.. ويتهمنا بالتزوير. نقف في مطارا أوروبا كالأغنام الحزينة.. فيمر كل المسافرين من باب السادة.. ونحن نمر من باب الخدم تحت عيون الآلات الإلكترونية وأنوف الكلاب البوليسية.. خمسون سنة ونحن نقشر برتقالة العروبة فلا يطلع منها عصير ولا ماء! نتحمس للوحدة ثم نفرطها.. ونتزوج عن حب ثم نطلق! ونضع في دساتيرنا أننا جزء من الأمة العربية.. ثم ننسي، ونعانق بعضنا في المطارات كما يفعل مشاهير العشاق.. وعندما ترتفع الطائرة بنا عشرة أمتار عن الأرض.. ننسي حبنا.. وحبيباتنا ونطلب من المضيفة إفطار الصباح! إن العروبة - كنظرية - يمكن أن تقرأ في سلسلة الكتب القومية التي تصدرها دور النشر العربية! والعروبة - كمطمح شعري - موجودة بكل زخمها، وحرارتها، وألوانها الوردية في دواوين كل الشعراء العرب منذ عصر الجاهلية حتي عصر قصيدة النثر! والعروبة - كشعارات ولافتات وملصقات - موجودة علي جدران كل المدن العربية.. وهي لا تكلف أكثر من سطل دهان وفرشاة. هذه العروبة هي العروبة السهلة.. أما العروبة الصعبة فهي عروبة الممارسة والتطبيق.. عروبة المواجهة مع النفس ومع العالم. وفي مقال آخر لا تقل سطوره دلالة لنزار قباني أيضًا كتب يقول: وبدلاً من أن يدفع العرب الجزية لمصر لأنها حمت أرضهم وأرزاقهم وأولادهم وأعراضهم من الاغتصاب، نجدها تدفع الجزية للعرب وهي تبتسم.. وبدلاً من أن يقبل العرب يد مصر من الوجه والقفا.. لأنها حاربت بالنيابة عنهم، وجاعت وعطشت بالنيابة عنهم، نجدهم يتوقعون من مصر أن تقبل أيديهم، وتسبح بحمدهم، وتمسح أطراف عباءاتهم المقصبة! كل هذا ومصر لا تفتح فمها ولا يسمح لها كبرياؤها ولا تسمح لها أخلاقها وأصالتها. صدقت يا شاعرنا العربي الكبير!