أسوأ كارثة تهدد أي مجتمع هو أن يغرق في مناقشة الحقائق الواضحة والبديهيات كأنها شيء جديد لم يعرفه من قبل أو يمر به، وهذا هو حالنا في مصر منذ أكثر من ثلاثين سنة، إذ فجأة ارتفع شعار مصر دولة إسلامية كأنها كانت من قبل دولة هندوسية رغم أنه في ذلك الوقت كانت شهرة القاهرة أنها مدينة الألف مئذنة ومدينة الأزهر وكان فيها أجمل أصوات المقرئين وكانت الاحتفالات الدينية لا تنقطع ولم يكن ينقص مصر لتكون دولة إسلامية أي شيء خاصة أنها كانت دولة لكل المصريين من المسلمين والأقباط الذين هم من سكان مصر الأصليين وليسوا من سكان المريخ ولا من بقايا الاستعمار، وكان المصريون يعرفون أن دينهم يوصيهم خيراً بأصحاب الديانات السماوية وأن الرسول نفسه أوصي المسلمين بمصر بالذات بالخير فمنها تزوج بمارية القبطية ومنها أنجب ابنه إبراهيم الذي فاق حزنه علي وفاته أحزانه علي من سبق ورحل من ابنائه. وكانت مصر بحكم الموقع ملاذا لكل المضطهدين بصرف النظر عن دياناتهم فكان فيها اليهود أيضا المصريون منذ القدم والفارون من مذابح أوروبا عبر العصور فضلا عن البهائيين، بل كان المصريون يحبون جيرانهم من الأجانب وخاصة الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمينية رغم أن أغنياء هذه الجاليات وغيرها كانوا يتمتعون بثروات البلاد وكان المصريون علي العموم في الدرجة الأقل لكن كان أيضا بين الأجانب من هم في الدرجة الأقل ومع هؤلاء قبل غيرهم كانت العلاقات الاجتماعية قوية ووثيقة وكان المصريون يشهدون للأجانب بالدقة والنظام والأمانة في التعامل وكل ذلك وغيره جعل من مصر دولة إسلامية حقيقية دون أن تعلن ذلك لا في الدستور ولا في القانون ولا في الأدبيات السياسية والثقافية. كان المصريون يعرفون أن الدين مكانه القلب، هم الذين سبقوا غيرهم في البحث عن الآلهة ثم الإله الواحد وهم الذين سبقوا غيرهم في التأكيد علي يوم الحساب لأنه في الدنيا يمكن أن ينفذ الظالم بألاعيب كثيرة من العقاب لكنه لن ينفذ عند الله يوم الحساب، يتعامل المصريون علي طول تاريخهم مع الدين باعتباره منجزاً أساسيا لهم ومنذ انجازه وهم يضعونه في المكان الذي وجد له وهو القلب مكونا الضمير لذلك كان المضطهدون من الأديان السابقة علي الإسلام يجدون في مصر ملاذا وكان المصريون يقولون لهم ليس هذا بجديد إنما هو بضاعتنا ردت إلينا. وكانت السنوات التي شهدت اضطهاد أصحاب الأديان الأخري يقوم بها دائما حكام ليسوا مصريين، لكن لأسباب سياسية محضة أطلق الرئيس السادات صيحته بأن مصر دولة إسلامية ليتخلص من قوي اليسار التي كانت أكبر المعارضين له حتي في صلحه مع إسرائيل ولم تقتله مثلما فعل المسلمون الذين فك عقالهم متفقا معهم علي الدور الذي يلعبونه لكنهم طبعا أخلوا بالاتفاق حين تضخمت قوتهم وأكلوا صاحبهم، هو وهم لعبوا سياسة بالدين ولم يكن المصريون يعرفون ذلك اللعب وهذه الانتهازية.. يا إلهي واتجهت مصر شرقا صوب الجزيرة العربية بعد أن كانت تتجه إلي البحر المتوسط تأخذ منه أسباب الدنيا ولم تجد في الجزيرة شيئا من أسباب الدنيا بل وجدت كل شيء يؤدي إلي الآخرة والعياذ بالله فليس في الجزيرة العربية علم ولا صناعة ولا زراعة. ليس هناك إلا الجلباب القصير وحف الشوارب وإطلاق اللحي والحجاب والنقاب ورجال الأمر بالمعروف يطوفون بالأسواق يراقبون ملابس الخلق، ولا يفعلون ذلك مع الأجانب من أوروبا مثلا ويحثون الناس علي الصلاة وإغلاق المحلات وغير ذلك مما يعرفه من شاء حظه العمل هناك وعرف أيضا ما يدور تحت السطح من معاص لكن المهم أن يبدو المظهر إسلاميا علي الطريقة الوهابية وليس كما عرف المصريون الإسلام، ومرت السنون فتخلص السادات من خصومه اليساريين والعلمانيين وارتفع شأن الإسلام الوهابي ولم تختلف الدولة المصرية عنه بعد ذلك بل ازدادت الفرصة للدعاة الوهابيين والمفكرين الوهابيين وجماعة الإخوان المسلمين ولم تنتبه الدولة إلي الكارثة إلا بعد أن راح هؤلاء جميعا يكفرون الناس المختلفين في المظهر أو الرأي ويكفرون الأقباط . وكان بعض الدعاة يصرخ في الجامع طالبا من المسلمين بألا يردوا سلاما للقبطي ولا يصافحوه ودخلوا بالمجتمع الي نفق الفتنة الطائفية النائمة الآن بفعل الأمن وليس بفعل العقل والاقتناع، واندفعت نخبة مستفيدة وجموع فقيرة جاهلة ونصابون ما أنزل الله بهم من سلطان من رجال المال والاعمال رفعوا شعارات إسلامية علي محلاتهم وغازلوا هذا التوجه الأبله للفقراء والجهلاء وغيرهم من كل الطبقات يواجهونك بوجوه مكتسية بالذقن وزبيبة علي الجبهة فإذا اشتريت منهم أو بعت وجدت نفسك ضحية في أغلب الاحوال لعملية نصب واستحلال لمالك دون ما يناسبه لا أكثر ولا أقل ولذلك إذا كان يمكن تلخيص مصر الآن في جملة فهي أكبر بلد عربي تسود فيه المظاهر الإسلامية وأكبر بلد عربي يعاني من النصب والفساد والعنف والفتن القائمة والنائمة بين الناس الذين طالما عاشوا من قبل سعداء مع بعضهم، وبح صوت المستنيرين من المثقفين في مقاومة هذا الجهل المتقنع بقناع الإسلام من ناحية وهذا الاستحلال لكن بلا فائدة فالمدارس وهي البيئة الأولي للتربية سيطر عليها مدرسون يرفعون شعارات الإسلام الشكلية ويشجعون التلاميذ علي التزويغ ليتلقفوهم في الدروس الخصوصية فانتهي التعليم وفسد ووجدت أيضا الدولة في ذلك راحة لها للأسف، تصور أنت دولة فسد فيها التعليم فماذا تنتظر لها غير التأخر العظيم، لقد انتهي الفهم المصري الجميل والأصيل للدين وللإسلام لذلك عندما يأمر مسئول بمنع النقاب تقوم الدنيا رغم أن الهيئة الدينية التي منعت أجمع فقهاؤها علي أنه ليس من الإسلام. هل كنا كفارا بعد ثورة 1919 وحتي منتصف السبعينيات مثلا لكن هنا اختبار قوة وفعل سياسي عند النخبة التي ترفع شعار الإسلام وجهل تورط فيه العامة المساكين ونصب علني يمارسه دعاة وشيوخ في محطات فضائية يجمعون ويكنزون من ورائه الملايين لا للإسلام ولكن لخراب البلد العظيم الذي هو مصر والمدهش أن مناصري النقاب يصرخون الآن أنها حرية شخصية وأن ما حدث هو اعتداء علي هذه الحرية، طيب هل تتركون الناس أحراراً في ملبسهم؟ هل تتركون غير المحجبة حرة ولا تتهمونها بالفسق والعهر وعشرات الألفاظ المنحطة يصرح بها شيوخ الفضائيات المأجورون؟ أم تبيحون جسدها للغوغاء حتي أصبح التحرش بها والاعتداء عليها عملا من أعمال الإسلام لأنها يجب أن تقر في بيتها، تصور يا عزيزي أن مصر الآن تناقش النقاب بعد خمسة آلاف سنة من اكتشاف المصريين للآلهة والحساب وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام علي أول توحيد علي الأرض، تستطيع أن تعرف أين هي مصر الآن ومن الذي ذهب بها إلي هذا المكان.