«البؤساء» تلك الفئة التى استحقت اللقب بجدارة، وهم تجسيد حى لمعاناة مواطنين لا يملكون قوت يومهم. الصحة والستر مطلبهم، وبعد أن ساءت الأحوال الصحية تحت قهر الفقر والإهمال والحرمان، وقف الستر وحيدًا لا يستطيع صد الهجمات وبات كالحلم صعب المنال. الحرم القانونى القضبان السكة الحديد بالهايكستب بالقاهرة هكذا يطلقون عليها، يقع بين مساكن «الهايكستب» وعزبة «الإخلاص» ولكنه سقط عمدًا من حسابات المسئولين، حيث تتراص العشش الصفيحية إلى جوار بعضها البعض منذ عشرات السنين.، ولم يطرأ عليها الآن أى جديد سوى زيادة فقر الفقراء بها مع زيادة كثافتهم من عشش تعادل فى قسوتها من تركوهم عرضة لجميع الأمراض الصحية الاجتماعية والمخاطر الخارجية. وبعد مشقة الوصول إليها إذ يستلزم ذلك الصعود والهبوط مرارًا من وإلى المنحدرات الوعرة التى تكونت من القمامة ومخلفات الهدم الناتج عن عمليات البناء فى المناطق المحيطة لتصبح غير مرئية للعيان.. تجد عيونا مترقبة لأطفال ونساء ورجال لم يتحملوا ارتفاع حرارة عششهم المكونة من الصفيح، فى مثل هذه الأجواء فخرجوا يجلسون على القضبان الحديدية ينتظرون وسيلة تسليتهم الوحيدة وهى القطار ومصدر خوفهم الأساسى أيضًا. الأطفال يسارعون بالجرى نحو أى شخص غريب عن المكان لعله مندوب العناية الإلهية الذى أرسله المسئولون لتخليصهم من رحلة العذاب التى بدأت بالبحث عن لقمة العيش بعد أن ضاقت بهم وبأسرهم السبل فى محافظتهم التى نزحوا منها. وعلى أحد التلال جلس محمد عيد عطية - 8 سنوات - بعيدًا عن أقرانه الذين يلهثون ويصيحون لدى رؤيتهم القطار، كان صامتًا يستطيع الكلام ولكنه لا يتكلم، يكتفى بالنظر بعيدًا عن امتداد السكة الحديد ومساعدة والده فى بعض الأحيان فى جمع ما يصلح للتزوير من المخلفات. والد عيد عطية - 50 عاما - عامل باليومية أرجع حالة ابنه النفسية السيئة لحوادث القطارات التى شهدها بحكم قرب مسكنه من القضبان فقد تعددت الحوادث مؤخرًا وتأثرت حالة ابنه النفسية بعد رؤيته للقطار ويلتهم ذراع وقدم أحد ضحايا القطار، ولضيق ذات اليد وكثرة الأطفال لم استطع تقديم العون الطبى له وعلاجه عند طبيب نفسى وإصبحت وحدته هى باتت أنيسه الوحيد. وتأثر الأطفال بمستويات متفاوتة بتلك المصائب فالطفل عبد الله صلاح - 9 سنوات - لم يعد يتحدث إلا عن الأشباح ويقول برغم حرص والدتى على عدم السماح لى بمغادرة المنزل ليلًا، إلا أننى اتسلل بعد نومهم لخارج العشة وكثيرًا ما أجد أطفال أشباح يطلبون اللعب معي، خاصة بعد اصطدام القطار بحافلة للأطفال كانت تقلهم للمدرسة، ففى البداية شعرت بالخوف ولكن سرعان ما اعتدت على الوضع وأصبحوا أصدقائى. واستمعنا طوال اليوم خلال الجولةعلى شريط القطار لقصص الجن والعفاريت والأشباح فى شعور نسيج متجانس مع سكان العشش وكأنهم يقصون نوادرهم الطريفة. ومن تلك القصص عثور طفلة على «كف بشرية» التقطتها ظنًا منها أنها لدمية ولكن والدتها اكتشفت غير ذلك، وقد حدث ذلك مباشرة بعد اصطدام القطار بسيارة ميكروباص حاولت عبور المزلقان أثناء مروره مسرعاً. تركنا الأطفال يلهون بالحجارة والرمال وإطارات السيارات على الفلنكات وتجولنا لتفقد أحوال 200 أسرة من سكان العشش. وجوه حزينة مهمومة من بينها كانت الحاجة بساطة البالغة من العمر 98 عاماً حفر الزمن على وجهها علامات لا تحص.. جلست أمام باب منزلها المصنوع من عبوات السمن القديمة وبعض الحديد البالي، لتحكى عن قصتها مع المكان وبصوت حزين وعيون تملأها الدموع تقول منذ أن وعيت على الدنيا ووالدى يسكن هذه العشة، ونحن جيران للقطار كنا نعيش فى الظلام الدامس، لا وجود للكهرباء، ولا كانت حياتنا غير آدمية بالمرة ولا تزال، كانت المنطقة المحيطة بحرم السكة الحديد صحراء جرداء وكانت العشش تتضاعف والأسر تتزايد كنا صغارًا نلهو حفاة القدم عراة الجسد، والصحراء كانت دورات المياه بدون أى جدران أو سقف يسترنا، وظللنا على حالنا هذا حتى الآن مع تغييرات فى الزيادة العدوية فقد تزوجت فى نفس العشة، مثل اخوتى ثم انتقلت لأخرى مجاورة أصغر منها حيث لم يعد هناك متسع للبناء من جديد. وفجأة تعالت الصيحات معلنة عن قدوم القطار ومحذرة الأطفال الاقتراب من القضبان، ثم التقطت «فاطمة عطية سلامة » - 41 عامًا - أطراف الحديث فهى واحدة من أبناء الحاجة سالمة، مشيرة إلى أن الجميع مصاب بحساسية الصدر بسبب ما يستنشقونه يوميًا من أتربة، وتقول لدينا أطفال لا نريد لهم استكمال حياتهم كما عشناها فى ظل الفقر والخوف من المجهول، ففى عام 1996 تذكرتنا الحكومة فجأة وأرادت هدم العشش وتشريدنا فى الشوارع، وقبل المعاينة النهائية نصحنا البعض بالبناء ليذكر تقرير المعاينة أنها ليست عششا ولكنها أبنية موجودة بالفعل والبعض لم يستطع تحمل التكاليف، فظلت هناك بعض العشش إلى جوار أبنية من الطوب اسقفها ونوافذها من الصفيح، ليصبح حالنا كمن رضى بالصفيح والصفيح لم يرضى به. وعلى مقربة من تلك العشة تجلس عايدة عبدالله - 60 عامًا - أنجبت 3 أبناء ولكنها لم تجد المال لتوفير متطالبتهم والمدارس لالحاقهم بها، فالمدرسة بعيدة عن مكان معيشتهم كذلك الحال بالنسبة للمستشفيات وأماكن تلقى الخدمات.. وعلى مسافة ليست ببعيدة التقينا علاء جمال رب أسرة مكونة من 7 أفراد وعشته من العشش القليلة التى لديها الماء والكهرباء لذلك، فكثيرًا ما تجد العشرات يترددون على دورة المياه، عنده وما أن تدخل العشة حتى تجدها مقسمة بالستائر والملاءات عوضاً عن الجدران.. ثلاجة صغيرة الحجم وغسالة بدائية الصنع، وتحدث علاء فى البداية محذرًا من لمس الثلاجة أو الغسالة فالكهرباء التى قاموا بتوصيلها عشوائيًا، لا تتناسب مع الأجهزة الكهربائية البسيطة المستخدمة فى المنازل، لذلك فهى مصدر للخطر الدائم، وكثيرًا ما تصعق زوجته وأطفاله أثناء استخدامها. جميع العشش متشابهة فالمكان فقير للغاية وتوجد مرآة مكسورة وملصقة فى أحد الأركان، يحاولون تتبع أشكال وجوههم من خلالها، الإضاءة تزيد الأمر سوءًا وكآبة قاتمة، رغم وجودها، المرض يخيم على كل من فى المكان والحجرة الصغيرة لا تتسع للبنات والبنين معًا ، الشقق الصفيح والبوها يفضح أكثر مما يستر، ففى الصيف تكون العشة شديدة الحرارة. وفى الشتاء شديدة البرودة. ومن خارج العشة سمعنا صراخ وبكاء سيدة عجوز خرجنا لنجد اعتماد زكى - 66 عاماً - تبكى بمرارة وتصرخ العشش تأوينا حرام عليكم ما تخلوش الحكومة ترمينا فى الشارع» ولم يهدأ صراخها حتى بعد أن دخلت العشة. بالنسبة للبعض لم يكن الأمر خيارًا مطروحًا للسكن فى تلك المنطقة إلا أن زلزال عام 1992 كان له رأى آخر الحاج يسرى يعود بالزمن للخلف وقت أن كان يحيا حياة كريمة مع أسرته فى منزله بمنطقة بولاق أبو العلا ثم هدم الزلزال منزله وشرد أسرته فى الشارع، ولم يجد مفرا من البحث عن مكان يأويهم، ولم يجد سوى الشقق المفروشة والتمليك مرتفعة الأسعار، وكانت تلك العشش هى الخيار الوحيد المتاح، أمامه، فلم يتردد فى ستر أسرته المكونة من 7 أفراد حتى وإن كان داخل عشة من الصفيح وإنشاء كشك صفيح لبيع بعض الحلويات للأطفال فى محاولة لسد احتياجات أسرته. وبالرغم من الفقر والمرض والبؤس الذى يتعايش معه سكان منطقة «الهايكستب» إلا أن التكامل الاجتماعى لديهم يظهر جليًا، فمن لديهم المياه يسمحون لمن لايجدون بملء المياه فتجد (الجراكن) تملأ وتفرغ طوال النهار حتى خلال فترات الليل ولا أحد يستاء من خدمة جيرانه وجميعهم يخافر على الأطفال من القطار حتى ولم يكونوا أطفالهم. فى النهاية يتمنى الجميع أن يتم سترهم بين أربعة جدران آدمية تحفظهم وتستر على بناتهم..وقالت ماجدة أحمد عبد الحميد - رئيس حى النزهة - وعند عرض الأمر عليها أنه لم يجر أى حصر لسكان وأسر تلك العشش لعدم توفر البديل لإسكانهم فى ذلك الوقت ، ثم تنبهت لتقول «أنا معنديش حد ساكن على حرم قطار سكة حديد فى دائرتي»،ولمزيد من الإيضاح شرحنا لها المكان بدقة وهو الواقع ما بين منطقة المساكن بعد «موقف العاشر» وعزبة الإخلاص فأشارت إلى أن هناك 4 أحياء تتقاسم مسئولية فى هذا المكان وهى المرج والسلام أول والسلام ثان والنزهة ثم أضافت لهم حى عين شمس فكان التخبط التام.. وأضافت بعد ذلك موضحة أن هؤلاء الأفراد متواجدون منذ زمن بعيد، وستظهر الكثير من المشاكل إذا حاولنا إبعادهم عن المنطقة، فبالإضافة لعدم وجود بدائل فلن تكن الأسرة الوحدة بوحدة سكنية ملائمة بل ستظهر أشكال عدة من التحايل على الحكومةإذا لم ينته الأمر بهم ببيعها والبحث عن عشش أخرى عشوائية، إضافة لوجود أولويات لمناطق أخرى تشكل خطورة داهمة على سكانها.. وانتقدت تحمل الحى لكافة المسئوليات تجاه هؤلاء فى حين أن سرقة العشش للكهرباء مسئولية مباحث الكهرباء، كما يلزم أن تتبنى هيئة السكة الحديد سورا حول حرم شريط القطار، واستطردت من جانبنا فلا نكتفى بإرسال الملاحظات خوفًا على حياة الأفراد فبعد إخطار وزارة الكهرباء وهيئة السكة الحديد قام الحى بعملية إخلال وتجديد فى أعمدة الإنارة، وتركيب ولاعات أخرى وكشافات عوضًا عن المسروقة من الأعمدة، ومنطقة الهايكستب وحدها كان لها النصيب الأكبر بعدد 45 عمود إنارة مع تغيير كامل فى شبكة الكابلات. وفى سياق متصل قالت أنا متأثرة جدًا بالموقف وأحاول يوميًا تأمين من 3 إلى 4 معابر لمرور الطريق حتى الهايكستب. بتأمين المزلقان الرئيسى للقطار، فالمنطقة يمر من خلالها قطار السويس، ونغلق المعابر المخالفة التى يفتحها السكان فى الجدار أو السور الملاصق للقطار بشكل يومي. وهناك عشرات المحاضر التى حررها الحى ضد الأفراد بسبب سرقتهم للكهرباء وفتحهم معابر مخالفة.وفى نهاية الحديث كانت المفاجأة إذا تذكرت رئيسة الحى أن الأمر لا يدخل فى نطاق اختصاصها وانما تتبع تلك المنطقة هيئة السكة الحديد فهى المسئولية عن «حرمها» فى محيط 25 مترًا والملاصقة للسكة، وأى إزالات تقع فى نطاقها فهى المسئولة عنها.