المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»، وقال صلي الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. الصحابى الجليل أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح -رضى الله عنه-، أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من أحب الناس إلى الرسول (،فقد سئلت عائشة -رضى الله عنها-: أى أصحاب رسول الله كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. [الترمذى وابن ماجة]. وسماه رسول الله ( أمين الناس والأمة؛ حيث قال: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح» [البخارى]. وعندما جاء وفد نجران من اليمن إلى الرسول طلبوا منه أن يرسل معهم رجلاً أمينًا يعلمهم، فقال لهم: «لأبعثن معكم رجلاً أمينًا، حق أمين»، فتمنى كل واحد من الصحابة أن يكون هو، ولكن النبى ( اختار أبا عبيدة، فقال: «قم يا أبا عبيدة» [البخارى]. وقد هاجر أبو عبيدة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وفى المدينة آخى الرسول بينه وبين سعد بن معاذ -رضى الله عنهما-. ولم يتخلف أبو عبيدة عن غزوة غزاها النبى، وكانت له مواقف عظيمة فى البطولة والتضحية، ففى غزوة بدر رأى أبو عبيدة أباه فى صفوف المشركين فابتعد عنه، بينما أصر أبوه على قتله، فلم يجد الابن مهربًا من التصدى لأبيه، وتقابل السيفان، فوقع الأب المشرك قتيلا بيد ابنه الذى آثر حب الله ورسوله على حب أبيه، فنزل قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [المجادلة: 22]. وفى غزوة أحد، نزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر (غطاء الرأس من الحديد وله طرفان مدببان) فى وجه النبى ( من ضربة أصابته، فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما. [الحاكم وابن سعد]. أبو عبيدة على خبرة كبيرة بفنون الحرب، وحيل القتل لذا جعله الرسول قائدًا على كثير من السرايا، وقد حدث أن بعثه النبى أميرًا على سرية سيف البحر، وكانوا ثلاثمائة رجل فقل ما معهم من طعام، فكان نصيب الواحد منهم تمرة فى اليوم ثم اتجهوا إلى البحر، فوجدوا الأمواج قد ألقت حوتًا عظيمًا، يقال له العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا نحن رسل رسول الله وفى سبيل الله، فكلوا، فأكلوا منه ثمانية عشر يومًا. [متفق عليه]. وقال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- لجلسائه يومًا: تمنوا فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها فى سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه فى سبيل الله. فقال عمر: لكنى أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فاستعملهم فى طاعة الله. [البخاري]. وكان عمر يعرف قدره، فجعله من الستة الذين استخلفهم، كى يختار منهم أمير المؤمنين بعد موته. أبو عبيدة -رضى الله عنه- كثير العبادة يعيش حياة القناعة والزهد، وقد دخل عليه عمر -رضى الله عنه- وهو أمير على الشام، فلم يجد فى بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا (أو قال: شيئًا) فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلِّغنا المقيل (سيكفينا). [عبد الرازق وأبو نعيم]. وقد أرسل إليه عمر أربعمائة دينار مع غلامه، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبى عبيدة بن الجراح -رضى الله عنه- ثم انتظر فى البيت ساعة حتى ترى ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال لأبى عبيدة: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه فى بعض حاجتك. فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالى يا جارية، اذهبى بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. [ابن سعد]. ومن أقواله: ألا رب مبيض لثيابه، مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات. [أبو نعيم وابن عبد البر]. وفى سنة (18) ه أرسل عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- جيشًا إلى الأردن بقيادة أبى عبيدة بن الجراح، ونزل الجيش فى عمواس بالأردن، فانتشر بها مرض الطاعون أثناء وجود الجيش وعلم بذلك عمر، فكتب إلى أبى عبيدة يقول له: إنه قد عرضت لى حاجة، ولا غنى بى عنك فيها، فعجل إلي. فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب عرف أن أمير المؤمنين يريد إنقاذه من الطاعون، فتذكر قول النبى (: «الطاعون شهادة لكل مسلم» [متفق عليه]. فكتب إلى عمر يقول له: إنى قد عرفت حاجتك فحللنى من عزيمتك، فإنى فى جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسى عنهم. فلما قرأ عمر الكتاب، بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟! قال: لا، وكأن قد (أي: وكأنه مات). [الحاكم]. فكتب أمير المؤمنين إليه مرة ثانية يأمره بأن يخرج من عمواس إلى منطقة الجابية حتى لا يهلك الجيش كله، فذهب أبو عبيدة بالجيش حيث أمره أمير المؤمنين، ومرض بالطاعون، فأوصى بإمارة الجيش إلى معاذ بن جبل، ثم توفى -رضى الله عنه- وعمره (58) سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل، ودفن ببيسان بالشام. وقد روى أبو عبيدة - رضى الله عنه- أربعة عشر حديثًا عن النبى).