فيلم «الوتر» الذي كتبه «محمد ناير» وأخرجه «مجدي الهواري» هو آخر الأفلام الروائية الطويلة التي عُرضت في عام 2010 ليكتمل عدد الأفلام المعروضة 29 فيلمًا، وفي حين تستطيع القول إنه من أكثر الأفلام طموحًا ورغبة في تحقيق ما هو مختلف، يمكنك في نفس الوقت أن تعتبره أكثرها إخفاقًا في تحقيق هذه الطموحات، مع الأسف لا نكتب عن الأفلام بمعيار الأمنيات والنوايا والطموحات، ولكن بمعيار ما شاهدناه وما تحقق بالفعل علي الشاشة، وما شاهدناه عمل يقع في المنطقة ما بين الدراما النفسية والبوليسية، يحاول أن يكسر توقعاتك فينتهي نهاية مفتوحة لا تغلق الأقواس أبدًا، ويصنع محاولته الأهم بإيجاد معادل موسيقي علي شريط الصوت لكل ما تراه من أحداث، ولكن هذه المحاولات تنتهي إلي ثغرات واسعة في خطوطه النفسية والبوليسية معًا، وكأنك أمام «وتر» مشدود انقطع في منتصف الطريق رغم المجهود الكبير، وكأن اعترافك بجرأة المحاولة والاجتهاد لا يمكنك من إغفال حقيقة انقطاع الجسور والإخفاق.. وأن العتب في ذلك علي «الوتر»! من حيث التصنيف، نحن بالأساس أمام دراما نفسية ترتدي زيّا بوليسيًا وليس العكس، ورغم أن مشكلات الفيلم في الخطين معًا (النفسي والبوليسي معًا)، إلا أن الخط البوليسي هزيل حقًا لدرجة أنك تستطيع القول إنك أمام أحد أضعف رجال البوليس علي الشاشة، وربما أحد أكثرهم سذاجة، ولكن الأهم عندي قبل التدليل علي مشكلات السيناريو أن نتحدث عن فكرة الفيلم، ماذا يريد فيلم «الوتر» أن يقول؟ ما وصلني مما شاهدته، وما تقوله الكلمات المكتوبة علي الأفيش (بالإنجليزية؟!) أن الأشياء ليست ما تبدو عليه، فليس محقق البوليس الرائد «محمد سليم» (مصطفي شعبان) شخصًا جديرًا بإدانة الآخرين لأنه مُدان أصلاً في جريمة قتل، وليست عازفتا الكمان والتشيللو (مايسة) (غادة عادل) و(منّة) (آروي جودة) - علي الترتيب - شخصيتين بسيطتين تعشقان الموسيقي، ولكن الشقيقتين تمتلكان نفوسًا معقدة ومركّبة تدفعهما لسلوكيات أكثر تعقيدًا وغرابة، وليس الملحن القتيل «حسن راغب» (أحمد السعدني) الذي عثر عليه مقتولاً في منزله بالعجمي باستخدام «وتر» آلة موسيقية مجرد فنان ليستلهم نغمات عذبة، ولكنه ذئب أناني لا يهتم أبدًا بمشاعر وأحاسيس الآخرين، ولكن يبدو أن صناع الفيلم لم يطمئنوا تمامًا إلي أن هذه الأفكار - وهي جيدة بلا شك - يمكن أن تصل إلي المتفرج من خلال الدراما، لذلك أضافوا بعض الكلمات في بداية الفيلم كتبت بخط بعيد تمامًا عن الانسجام والسلاسة، وتتحدث للمفارقة عن فكرتي الانسجام والنشاز في العلاقات الإنسانية كامتداد للفكرتين في الموسيقي، ومرة أخري أنت أمام طموح كبير للتعامل مع أفكار ثرية بصرف النظر عن اعتراضي علي فكرة الكلمات (سيئة الخط) المكتوبة التي أراها مصادرة علي المطلوب، وقلة ثقة في قدرة الدراما علي الإفصاح. يقوم بناء الفيلم علي هدف صنع «وتر» مشدود أساسه رسم ملامح نفسيتي «مايسة» و«منة» ومشاكلهما الداخلية بعد وفاة الأب المايسترو، وزواج الأم «عايدة» (سوسن بدر)، ومعاناة الابنة الكبري «مايسة» كطفلة ثم كشابة من تحرشات زوج الأم، ثم صراع الابنتين علي حب الموسيقار الشاب «حسن راغب» الراغب دوماً في اشباع شهواته، لدرجة أنه ينجح في جعل الشقيقتين عشيقتين له في نفس الوقت، ولكننا نكتشف تدريجياً أن التحقيق في جريمة القتل باستخدام «الوتر» يتم من خلال معاناة المحقق نفسه (محمد سليم) من مأساة شخصيته حيث قتل زوجته بالخطأ لإنقاذها من براثن شاب أراد اغتصابها؟! ورغم ذلك، عاد للعمل من جديد رغم مظهره وهيئته المضطربة (؟!) من الناحية النفسية تظهر ثغرتان واسعتان جداً وأساسيتان، الثغرة الأولي هي أن افتقار الفتاتين لحنان الأب، وتعرض الابنة الكبري لتحرش زوج الأم، لا يعتبران مبررين كافيين لتفسير عنف الفتاتين في المشاهد الأخيرة، أما إذا رأيت أنهما كافيين فالأولي أن يتوجه العنف إلي زوج الأم لا إلي الملحن الشاب رغم كل ما فعله أما الثغرة الثانية فهي عدم ضبط تحولات العلاقة بين «مايسة» و «منة» التي تبدو في أول الفيلم أقرب إلي العداء، ثم تنقلب رأساً علي عقب - ودون أي تمهيد - في نهاية الفيلم، في رأيي عن علاقة الشقيقتين أهم بكثير من علاقة «مايسة» بزوج الأم المتحرش. نفسياً أيضاً كانت هناك مشكلة واضحة جداً في رسم شخصية الضابط، إذ ظل السؤال المعلق بلا إجابة، كيف يمكن أن تصبح «مايسة» في مخيلة الضابط كما لو كانت بديلاً لصورة زوجته؟ ما الصلة بين الاثنتين لتفسير ذلك؟ الأغرب أن الضابط سيري «مايسة» كبديل لجثة الملحن «حسن راغب» في إحدي اللقطات؟! ما المعني؟ لا أعرف، علي المستوي النفسي أيضاً هناك سؤال كبير وهام: كيف يعمل إنسان في اتجاه إدانة الآخرين وهو يعاني طوال الوقت - كما فهمت علي الأقل - من إحساسه أصلاً بأنه مدان؟! أما علي مستوي الخطوط البوليسية، فأنت بالفعل أمام ضابط ساذج لا تعرف بالضبط كيف صبروا عليه وقتاً طويلاً قبل إبعاده، طريقته مثلاً في اتهام البواب، أو في توريط الأم في تهمة القتل بعد العثور بالصدفة علي سلسلتها، أو أسلوب أسئلته الساذج للفتاتين في كافيهات القاهرة والإسكندرية، كل ذلك لا يجعل فقط الخط البوليسي متهافتا ولكنه يجعل من الضابط وسيلة لعرض متهمين علي المتفرج، نعلم ببساطة أنهم لم يرتكبوا الجريمة، ناهيك بالطبع عن المشهد العجيب الذي يعترف فيه الضابط لمايسة بأنه اتهم خطأ بقتل زوجته، والمشهد الأغرب بتكرار عملية إطلاق النار ولكن هذه المرة علي زوج الأم، بعد استدعاء «سينمائي» بالموبايل! وبسبب كل ذلك أصبح لدينا - في التحليل النهائي - شخصيتان لديهما مشكلات نفسية لا تقضي بالضرورة إلي ارتكاب فعل القتل أو لا تفضي إليه في الاتجاه الذي أراده الفيلم، وشخصية أخري تعاني من عقدة الذنب مما يؤثر علي أدائها في التحقيق وبذلك يصبح الضابط طرف الصراع الآخر ضعيفاً، وأقل بكثير مما يجعله قادراً علي قيادة الأحداث بقوة إلي مفاجأة النهاية، وهذا هو السبب الأساسي في حالة الفتور التي تنتاب الفيلم بعد فترة قصيرة من بدايته. لن أكشف لك هذه المفاجأة الأخيرة حتي لا أفسد عليك متعة الاكتشاف عند المشاهدة، كل ما استطيع قوله إن هذه المشاهد هي أفضل لقطات الفيلم علي الاطلاق من حيث بنائها السمعي والبصري ومدي الانسجام بينهما، ولكنها لم تجب مع ذلك عن سؤالين هامين هما: لماذا تم تنفيذ الجريمة باستخدام الوتر مما يرسخ الشبهات ولا يدفعها؟ وما فائدة تأكيد إدانة الضابط بالكشف عما حدث بالفعل مع زوجته؟ ما فائدة وتأثير ذلك علي موقفه من جريمة قتل «حسن راغب»؟! أيهما أفيد للخط الأساسي للفيلم: أن يكون لدي الضابط احساس بأنه مسئول عن قتل زوجته أم أن يكون لهذا الاحساس أصل من الواقع؟! لا أعتقد أن لدي صناع «الوتر» إجابات عن الأسئلة المطروحة لأن طموحاتهم كانت أكبر بكثير من قدرتهم علي صناعة بناء درامي يمكنه أن يحمل هذه الطموحات، ثم كان الطموح الأجمل في محاولة صنع معادل سمعي سيمفوني لهذه الصراعات التي نراها، هنا أيضا ظلت المشكلة أن الموسيقي التي وضعها «محمد مدحت» و«أمير هداية» وهما من أبطال الفيلم فعلا، ظلت عادة أقوي بكثير مما نراه سواء من اضطرابات الشخصيات النفسية أو من تحولات الأحداث البوليسية، وكانت أفضل النتائج في تتابعات مشهد النهاية، حيث نجح مونتاج «غادة عز الدين» في صنع بناء متماسك متصاعد ومتآلف إلي حد كبير سمعيا وبصريا كان هناك مجهود ضخم في صناعة معادل موسيقي للأحداث باستخدام الكمان والتشيللو والبيانو بل والأصوات البشرية التي تجسد ربما متاعب الروح ومعاناتها النفسية، الحقيقة أن شريط الصوت كله الذي أشرف عليه «محمد عبدالحسيب» فيه مجهود كبير ومميز، وإن كانت الدراما وثغراتها تخذله أحيانا.. علي سبيل المثال: تعبر الموسيقي عن معاناة «مايسة» النفسية بسبب تحرش زوج الأم بها أثناء الطفولة، ولكن الموقف الدرامي يخذل الموسيقي تماما لأنك لا تستطيع ابتلاع «لا علي المستوي النفسي ولا البوليسي» أن تحكي متهمة هذه الاعترافات بسهولة أمام محقق يتهمها في جريمة قتل. في أحيان أخري كانت مكونات الصورة تخذل الموسيقي المحلقة، حدث ذلك باستخدام «كليشيهات» «الفيلم نوار» المعروفة والمألوفة مثل طبقة الاضاءة المنخفضة، واللجوء إلي أقل عدد من المشاهد النهارية، والاستخدام الممل للحركة البطيئة، واستخدام الكادر المائل أحيانا، وكلها وسائل ابتذلت من فرط استخدامها في صورتها التقليدية، بل إن المخرج «مجدي الهواري» استخدم الجرافيك في التعامل مع صور أبطاله بحيث تحولوا إلي ما يقرب من رسوم «الكوميكس»، وقد أعطي ذلك انطباعا غير صحيح بأنك أمام حدوتة خيالية مأخوذة عن مجلة رسوم مصورة في حين يعتمد البناء كله علي الايهام بالواقعية. كانت هناك أيضا تصرفات بصرية فجة ومباشرة وتكاد تنتمي إلي سينما الخمسينيات مثل لقطات «السلويت»، ومثل وضع وجه زوج الأم عمدا في الظلام مع أن المكان مضيء تماما «الصورة ل «مازن المتجول» و«عمرو فاروق» وربما كان التميز الأكبر في العناصر التقنية بالإضافة للموسيقي والمونتاج في ملابس «مها بركة» وفي ديكور «سامر الجمال». أداء الممثلين أيضا جاء مضطربا: لم تعثر «غادة عادل» في أدائها مثلا علي مفتاح الشخصية «مايسة» هل هي مستهترة أم مسئولة؟ هل هي مجرمة أم ضحية؟ في المشهد الواحد يمكن أن تجد نوعية من الأداء مع التسليم باجتهاد «غادة» خاصة في استخدام نظرة العين، «أروي» كانت أيضا حائرة في التعبير عن شخصية غائمة، ولم تستطع التحكم في صوتها في مشهد انفعلت فيه فأحدثت أثرا كوميديا، أما «مصطفي شعبان» فهو يؤدي بوجه لا يكشف عن أي تعبير أو معاناة نفسية، حتي «أحمد السعدني» لم يكن مناسبا أصلا لدور الملحن الدون جوان الذي تتصارع فتاتان - بل فتيات - علي الفوز بقلبه وجسده!