90 جنيها لكيلو العدس.. تعرف على أسعار البقوليات بأسواق دمياط    المشاط تلتقي مجموعة جيفرز المالية وبنك جي بي مورجان لعرض نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي والهيكلي    ماكرون: حزمة مساعدات فرنسية ضخمة لدعم لبنان بقيمة 100 مليون يورو    تعرف على موعد تحرك بعثة الزمالك لاستاد محمد بن زايد    ليس فرد أمن.. إعلامي إماراتي يكشف مفاجأة عن هوية صاحب التيشيرت الأحمر    شاب يمزق جسد صديقه بسبب خلافات بينهما في منطقة العمرانية    إصابة شخصين في مشاجرة بالأسلحة البيضاء بمنطقة إمبابة    السجن المشدد 5 سنوات لعاطلين في الشروع بقتل سائق توك توك وسرقته بالمطرية    بعد إلغاء عرض آخر المعجزات.. مهرجان الجونة يعلن تغيير فيلم افتتاح دورته السابعة    لمياء زايد: كنت أحلم بدخول دار الأوبرا فأصبحت رئيسة لها    قبة مستولدة محمد علي.. نقابة المهندسين تقرر تشكيل لجان لبحث ما أثير حول هدم بعض المناطق التاريخية    محمد محمود عبدالعزيز وزوجته سارة وشيماء سيف ضيوف «صاحبة السعادة»    نائب وزير الصحة يبحث مع نظيره بدولة بنما التعاون المشترك    ضبط تشكيل عصابي لسرقة الأسلاك الكهربائية من الشقق بمدينة 15 مايو    مدير تعليم القاهرة يوجه بضرورة تسجيل الغياب أولًا بأول    ندوات توعية حول ترشيد المياه في إطار مبادرة (بداية) بمطروح    لمواليد برج العذراء.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر 2024    تعرف على طاقم تحكيم مباراة الأهلي والزمالك    تشكيل مانشستر يونايتد المتوقع أمام فنربخشة بالدوري الأوروبي    السوبر المصري - تفاصيل برنامج الأهلي تحضيرا لمواجهة الزمالك    جيرارد: صلاح مهووس باللعبة.. أتحدث عنه باستمرار.. وأتمنى بقاءه    كولر يعقد محاضرة للاعبين قبل التوجه لملعب مباراة السوبر    دعم للفلاحين.. رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمنظومة حوكمة تداول الأسمدة الزراعية    تعاون مع الأمم المتحدة لمواجهة الجرائم البيئية    تداول 55 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحرالأحمر    وزير الصحة يتابع استراتيجيات تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو الشامل في مؤتمر السكان 2024    "خناقة بالمطاوي" داخل موقف إمبابة والحصيلة مصابان    بدء تشغيل معامل جديدة بجامعة الإسماعيلية الأهلية (صور)    الرئيس الصينى يدعو لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة وإحياء حل الدولتين    حزب الله يدك قاعدة زوفولون للصناعات العسكرية شمال مدينة حيفا    الأمم المتحدة: تضاعف عدد القتلى من النساء فى النزاعات المسلحة خلال 2023    جامعة حلوان تنظم المهرجان التنشيطي للأسر الطلابية    الإسعاف الإسرائيلي: إصابة شخصين بجروح خطيرة في الجليل الغربي    جامعة المنوفية تحتل المركز التاسع محليا و28 إفريقيا في تصنيف ليدن الهولندي    التأمين الصحي بالقليوبية يحتفل باليوم العالمي لنظافة الأيدي بمستشفى بنها النموذجي    الكشف على 168 مواطنا بقافلة طبية بقرية ميت الحوفين في بنها    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت الحوفيين ضمن مبادرة "بداية".. صور    تكليف 350 معلمًا للعمل كمديري مدارس بالمحافظات    تحرير 125 محضرًا خلال حملات على المخابز والأسواق    مهمة جديدة في انتظار شيكابالا داخل جدران الزمالك بعد أزمة الثلاثي    اعتقال 200 فلسطيني من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة    نيقولا معوض يخدع ياسمين صبري في ضل حيطة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 24 أكتوبر 2024 في المنيا    مدير منطقة الغربية الأزهرية يتفقد انتظام الدراسة بالمعاهد الأزهرية بالمحلة    مبادرة "بداية " تضيء احتفالات أكتوبر بمدرسة سان جوزيف    محافظ أسيوط يتفقد مدرسة النيل الدولية    استقرار أسعار الفراخ البيضاء اليوم الخميس 24 أكتوبر    إطلاق قافلة طبية قافلة طبية ضمن مبادرة رئيس الجمهورية    هل يجوز الكذب عند الضرورة وهل له كفارة؟.. أمين الإفتاء يوضح    بدائل الشبكة الذهب للمقبلين على الزواج.. خيارات مشروعة لتيسير الزواج    الأحد.. هاني عادل ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    تجديد حبس فني تركيب أسنان قام بقتل زوجته وألقى بجثتها في الصحراء بالجيزة    سول: قمامة حملها منطاد كوري شمالي سقطت على المجمع الرئاسي    خبير عن تطرق البيان الختامي ل " البريكس" للوضع في الشرق الأوسط: رسالة للجميع    خالد الجندى: سيدنا النبى كان يضع التدابير الاحترازية لأى قضية    فيديو مرعب.. لحظة سرقة قرط طفلة في وضح النهار بالشرقية    ميقاتي: لبنان مستعد لتنفيذ القرار 1701 فور وقف إطلاق النار    تهنئة بقدوم شهر جمادى الأولى 1446: فرصة للتوبة والدعاء والبركة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أبناء (أكتوبر) زهير الشايب مترجم «وصف مصر»
نشر في أكتوبر يوم 19 - 09 - 2024

-«السماء تمطر ماء جافا».. شهادة "روائية" حية على وقائع الوحدة والانفصال
(1)
على مدى عمرها كلها صارت (أكتوبر) منذ صدور عددها الأول في 1976 وحتى هذا العدد التذكاري (2500) سجلا حيا وتوثيقا دقيقا لتاريخ هذا الوطن ومجرياته منذ ظهورها وحتى الآن.
قضايا وملفات.. سجلات ووقائع وأحداث.. سير ومذكرات وشهادات حية.. أعمال أدبية ونصوص إبداعية لكبار الكتاب والمبدعين في مصر.. مذكرات صناع النصر.. شهادات العدو (والفضل ما شهدت به الأعداء).. إلخ.
كتب :إيهاب الملاح
استوعبت (أكتوبر) على صفحاتها طيلة ما يقرب من العقود الخمسة سجلًا حافلًا لم ينفصل لحظة واحدة عن ضمير الوطن ولا الدفاع عنه، ولا العمل على رقيه وازدهاره والبحث عن مستقبله حتى وقتنا هذا..
وقد ارتبط اسم (أكتوبر) منذ بداياتها باسم مثقف ومترجم مصري عظيم، وهب عمره كله –على قصره– لإنجاز مشروع علمي وفكري هائل خلد اسمه عبر العصور وضمن له البقاء والخلود. أتحدث هنا عن المرحوم الكاتب والمترجم الراحل الكبير زهير الشايب الذي تصدى لترجمة كتاب «وصف مصر» الذي أنجزه علماء الحملة الفرنسية في القرن الثامن عشر..
(2)
مؤسس أكتوبر ورئيس تحريرها آنذاك أنيس منصور، وثق هذه اللحظة التي ارتبط فيها اسم زهير الشايب بمجلة (أكتوبر)، وبدأ فيها مشروعه الكبير والضخم، يقول أنيس منصور:
في 1976 صدرت مجلة (أكتوبر) أي بعد صدور (الأهرام) بمائة عام.. وفي العام نفسه، صدر عمل جليل لأحد محرري مجلة (أكتوبر) دون ضجة. فقد ترجم المرحوم زهير الشايب (1935-1982)، وفي منتهى التواضع والصمت، تسعة مجلدات من السجل التاريخي الشهير: «وصف مصر»، و99% من المثقفين قد سمعوا عنه.. ولم يره بالفرنسية إلا عدد قليل جدًا.. أنا رأيته لأول مرة في بدروم كلية الطب.. ولم أره كاملا، وإنما رأيت ثلاثة أجزاء فقط… ولكي أراه كاملًا ذهبت إلى الجامعة الأمريكية، وعندما ترك د. خيري سمرة عمادة كلية الطب فوجئت بعدد من الموظفين من كلية الطب يطلبون كتاب (وصف مصر) لأنه عهدة د. خيري!
وتمنيتُ أن أرى هذا السجل التاريخي باللغة العربية، وحاولت وذهبت مع الناشر أحمد رائف إلى باريس، والتقينا بالمرحوم لطف الله سليمان الذي أقنعنا بأن وزارة الثقافة الفرنسية ترصد مبلغا ماليا ضخما لمن يترجم مثل هذا العمل الجليل، ومات لطف الله سليمان. وذهبنا إلى لندن، وقابلنا إبراهيم فوزي، وكان المستشار العلمي بالسفارة، ولم نجد أن هذا الكتاب قد ترجم إلى الإنجليزية، كما قيل لنا.
ومن المؤكد أننا استمتعنا بهذا السجل الرائع لكل ما في مصر، أرضًا، وحيوانًا، ونباتًا، وجوا، وحياة، وعلاقات، وعادات وتقاليد، وفهما عجيبا للعادات المصرية، وللروح المصرية أيضا. وبقي الأمل في أن نرى الكتاب كاملا، وفي المجلس الأعلى للثقافة، تمنيت أن نراه مترجما.. وتعددت الوعود، واكتفينا بهذا القدر".
هذه هي الشهادة التي وثق بها أنيس منصور ميلاد مشروع ترجمة «وصف مصر» على يد زهير الشايب الذي كان محررا وصحفيا من أبناء (أكتوبر)،
(3)
وزهير الشايب لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة من أبناء مجلة (أكتوبر) أو حتى من خارجها، مثقف ومترجم وكاتب مصري لمع في سماء الإبداع والفن والترجمة كالبرق ثم سرعان ما خبا بنهاية مأساوية.. لكن بقي في النهاية إنجازه العبقري والمشرف، وبقيت أعماله، وترجماته، وسيرته شاهدة على نبوغه وتفرده، وعلى عمله الثقافي والفكري والإبداعي الرائع الذي ما زلنا نستدعيه ونذكره ونتحدث عنه رغم رحيله منذ ما يزيد على أربعين سنة.
ولد زهير الشايب بقرية "البتانون" بالمنوفية عام 1935 وحصل على دبلوم المعلمين الخاص من معهد شبين الكوم عام 1957 وقد انتسب في الوقت ذاته بكلية الآداب جامعة القاهرة ليحصل على الليسانس عام 1959، وأتقن اللغة الفرنسية فضلًا عن امتلاكه ناصية البيان في اللغة العربية، وقد كانت ميوله الأدبية قد بدأت تفصح عن نفسها بكتابته للقصة القصيرة. وهذا بالتوازي مع ميله وشغفه الكبير بالتاريخ والدراسات التاريخية، وقد شهد له بهذا كبار الأساتذة من المؤرخين الأفاضل.
اضطرته الظروف للعمل بالتدريس في مصر وسوريا، والتحق بعددٍ من الوظائف الحكومية، وأخيرًا عمل بالصحافة في مجلة (أكتوبر)، ثم بالقسم الخارجي بجريدة (الأخبار)، وخلال ذلك اشتهر زهير الشايب بكتابته للقصة والرواية ولمع اسمه كأحد أبرز أصوات القصة من الجيل الجديد (الستينيات)
وفي سنواته الأخيرة اختير أمينًا للجنة التربية بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوًا بمجلس إدارة اتحاد الكتاب لعدة دورات، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عن ترجمته للأجزاء الأولى من موسوعة «وصف مصر» عام 1979 ثم أتم ترجمة تسعة أجزاء منها، ونشر أربعة أجزاء كاملة من التسعة على نفقته الخاصة قبل أن تتولى دور نشر الخانجي ومدبولي والشايب –التي أسستها أسرته بعد وفاته– ومن بعدها الهيئة العامة للكتاب، طباعتها.
حصل الشايب على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وله من المؤلفات والأعمال الأدبية مجموعة قصصية بعنوان «المطاردون»، وحكايات عن عالم الحيوان، «المصيدة»، وروايته الوحيدة التي سنخصها بمزيدٍ من الأضواء «السماء تمطر ماء جافا» التي تجسد مرحلتي الوحدة والانفصال بين مصر وسوريا..
أما على صعيد الترجمة (غير ترجمته لموسوعة «وصف مصر»)؛ فقد ترجم العديد من الكتب التاريخية المهمة عن الفرنسية، منها: «فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة العثمانية» لأندريه ريمون، وكتاب مارسيل كولمب عن «تطور مصر» في الفترة من 1924 وحتى 1950، فضلاً عن ترجمته كتاب «الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر» تأليف صامويل برنار، ومسرحية «موتى بلا قبور» تأليف جان بول سارتر، وهى ترجمات اعتمد عليها الكثير من الباحثين في مجالات التاريخ والاجتماع والأدب.
عقب وفاته المفجعة، كتب عنه الأستاذ عادل البلك الصحفي بمجلة (أكتوبر) في ذلك الوقت إنه عاش حياته بهدوء العلماء وصمت المتصوفين، وقالت عنه نعم الباز في (الأخبار) إنه استطاع في زمن قياسي وبجهد مضن أن يترجم كتاب «وصف مصر»، ويعيد تبويبه ويخرج منه كنوزاً ظلت دفينة لفترة طويلة ونظم منه عقداً جميلاً لا يفتقد للحس الفني، وجاء نعى نقابة الصحفيين له جامعًا مانعًا حيث جاء فيه "إن نقابة الصحفيين تنعى واحدًا من أنبغ شبابها وفارساً من أشرف الفرسان في ميدان الكلمة المؤمنة الصادقة".
(4)
وتقريبًا وقف زهير الشايب أكثر من ثلث عمره الأخير لهذه الإنجاز الضخم، والمجهود الجبار الذي تنوء به مؤسسات بأكملها (كلنا نذكر كيف تمت ترجمة أعمال كبيرة مثل «دائرة المعارف الإسلامية» التي قام بنقل أجزاء كبيرة منها لجنة من كبار المترجمين؛ وصار الأمر ذاته في ترجمة الموسوعة الضخمة «قصة الحضارة» في 42 جزءا للمؤرخ الأمريكي الشهير ول ديورانت).
كان طموح زهير الشايب كبيرًا وهائلًا لا يملك من عتاد الدنيا سوى إرادته ومعرفته وقدراته اللغوية والتاريخية، وقبل كل هذا إيمان راسخ بنبل الهدف والغاية من هذا المشروع؛ لقد قوبل طموح زهير الشايب باستخفافٍ واستهتار وتسفيه، ولم يصدق أحد أن يقوم فرد "بِطُوله" مهما أوتي من قوة ومهارة ونبوغ أن "يترجم" مثل هذا العمل الضخم الذي يقع في أصله الفرنسي في 28 مجلدًا ضخمًا، عدا مجلدات اللوحات والرسوم والخرائط.
ورغم كل التسفيه الذي واجهه والعنت والأذى الذي مورس ضده نجح زهير الشايب بإرادته وعزمه ودأبه أن ينجز ترجمة المجلدين الأولين إلى العربية؛ وفق منهج صارم ومحدد ومرتب، واستطاع أن يخرج إلى قراء العربية المجلد الأول بعنوان (المصريون المحدثون)، والمجلد الثاني بعنوان (العرب في ريف مصر وصحراواتها)، ثم أتبعهما بالمجلد الثالث بعنوان (دراسات عن الأقاليم والمدن المصرية).
ثم توالت بقية المجلدات تباعا حتى المجلد الثامن؛ وصدرت الطبعة الأولى من المجلدات الخمسة الأولى عن مكتبة مدبولي الشهيرة (قبل أن تقرر السيدة عفت إنشاء "دار الشايب للنشر" لتتولى هي وبمعرفتها إصدار كامل أجزاء وصف مصر التي تم إنجازها والاستعداد لإصدار بقية المجلدات..).
تقول ابنته الدكتورة منى زهير الشايب، مدرس الحضارة المصرية القديمة بكلية الآثار بجامعة القاهرة، والتي أكملت ترجمة الأجزاء المتبقية من موسوعة «وصف مصر» من بعد رحيل والدها:
"إن والدى سار في ترجمته للموسوعة على منهج الترجمة الأمينة والدقيقة التي تحافظ على حرفية النص مع الاحتفاظ بحق التوضيح وتوجيه القارئ من خلال الهوامش والجمل الاعتراضية بين الأقواس التي تعبر عنه، وحقيقة إن ترجمته بشهادة الجميع".
وصحا الوسط الثقافي ذات يوم ليفاجأ براهب فكر حقيقي ينجز بمفرده و"طوله" وفي ظروف أقل ما توصف به أنها سيئة بل محرضة وعدائية ومشحونة بكل مشاعر الحقد والإيذاء تجاه الرجل البسيط الطيب، وتجاه مشروعه الذي استخفوا به في البداية، واستكثروه عليه في النهاية حتى خاتمته المأساوية، صحا هذا الوسط على خبر فوز زهير الشايب بجائزة الدولة التشجيعية عن ترجمته للجزءين الأولين من موسوعة «وصف مصر».
كانت المأساة تتم فصولًا؛ وبدلًا من أن تكون الجائزة إعلانًا بقيمة الرجل وعظمة ما أدى للوطن والحضارة الإنسانية بنقل هذا الأثر إلى العربية؛ تكالبت عليه النفوس السوداء والأيدي القذرة وتآمرت عليه وعلى مشروعه ودفعت به إلى نقطة النهاية ليموت الرجل بذبحة صدرية حادة عقب مؤامرة دنيئة أتت على ما بقي من مقاومته الشريفة في العام 1982.
ولا أنسى ما حييت الدموع التي روت لي بها السيدة عفت الشريف قصة هذا النبيل وقصة ترجمته ل «وصف مصر»، وما عاناه وما لاقاه. لكن الله لا يضيع أجر من أحسن وأجاد واجتهد؛ فأراد سبحانه أن يخلد ذكر الرجل وأثره؛ ورغم وفاته الفاجعة دون إتمام كامل أجزاء «وصف مصر»؛ فإن الله قيض له من أولاده وبناته ومن قبلهم زوجه الوفية، كي يفوا بالعهد وينجزوا الوعد ويتموا ما نواه وبدأه أبوهم الجليل.
(5)
«السماء تمطر ماء جافا»
صدر هذا الكتاب عن سلسلة كتاب (أكتوبر) بدار المعارف عام 1979، ويتعرض هذا الكتاب لأخطر تجربة مرّ بها الوطن العربي في تاريخه المعاصر، هي تجربة قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ثم انفصال دولة الوحدة بعد ثلاث سنوات فقط في 1961.
ومع ذلك، فهذا الكتاب ليس كتابًا فكريًّا خالصا كما أنه ليس عملًا سياسيًّا محضا وإن لم يفارق الدائرتين، ولكنه بالأحرى عمل أدبي، ويجب أن يقرأ بهذا الاعتبار أولا وقبل كل شيء، فإن لم يكن "رواية" بالمفهوم المتعرف عليه فهو ملامس لها، يتخذ من السياسة والفكر ركيزة له، وينظر إلى كل ذلك باعتباره "تجربة إنسانية" عامة وشاملة..
عن ظروف تأليف هذا الكتاب، وظهوره أولًا في صورة حلقات مسلسلة أسبوعيا، قبل أن يظهر بين دفتي كتاب صدر عن دار المعارف، ترويها ابنته الدكتور منى زهير الشايب الأستاذة بكلية الآثار جامعة القاهرة، في حوارٍ لها قالت فيه:
"بعد أن انتهى والدي من ترجمة الأجزاء الأربعة الأولى من كتاب «وصف مصر»، كرمه الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1979م، ومنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة الدولة التشجيعية في عيد العلم، وحينها شعر أن الدولة تقدر الجهد الذي بذله، وأحست الأسرة بكاملها بسعادة غامرة.
وعقب ذلك ربطته علاقة شخصية مباشرة مع الرئيس الراحل أنور السادات الذي طلب منه أن يكتب كتابًا عن تجربة "الوحدة بين مصر وسوريا" بعد أن علم أنه عاصرها هناك وكان شاهد عيان عليها، واستجاب المرحوم زهير الشايب لطلب الرئيس السادات، وكتب رواية «السماء تمطر ماء جافًا»، التي نشرت مسلسلة على صفحات (الأخبار)، فكانت واحدة من أفضل الأعمال السياسية التي أنتجها والدي، نشرت في البداية على هيئة حلقات في جريدة "الأخبار" ثم جمعت في كتاب".
وأنا أفضل أن أصف هذه الرواية بأنها بمثابة شهادته الفريدة على تجربة الوحدة المصرية السورية (1958-1961)، وكان زهير الشايب قد سافر إلى سوريا ليعمل مدرسًا في مدينة حماة، ولم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره، ولكنه ظل مختزنًا تفاصيل تلك التجربة حتى نشرها مسلسلة في مجلة (أكتوبر) التي كان يعمل بها قبل رحيله، وهي شهادة في غاية الأهمية، وذلك لفرادتها، وكذلك لاختلافها عن كل ما كتب، ونشرت طبعتها الأولى عن دار المعارف عام 1979، تحت عنوان «السماء تمطر ماء جافا»، وكتب زهير في المقدمة يقول:
"منذ قامت الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958، ثم انفصمت عراها في سبتمبر من العام 1961 على يد الحركة الانفصالية السورية، وهناك صمت مطبق وعجيب حول هذه التجربة الخطيرة في حياة العرب عامة وحياة وأقدار المصريين منهم على وجه الخصوص.
فحين تكون العلاقات العربية جيدة –وهذا هو الاستثناء– تجد من يقول لك: لماذا تنكش في هذه التجربة المريرة وتعكر الصفو العربي، ولماذا هذه الأيام بالذات؟؟
وحين تصبح العلاقات العربية مليئة بالخلافات والمشاحنات –وهذه هي القاعدة– تجد من يقول إن شئون العرب في حالة من السوء لا تحتاج معها إلى مزيد، فلماذا الإصرار على أن تصب الزيت على النيران الملتهبة، وكانت محصلة ذلك ألا تقرب هذه التجربة مطلقا باعتبارها نوعًا من "التابو" العربي برغم خطورة ذلك من نواح شتى"..
يعلق الكاتب والناقد شعبان يوسف على ذلك بقوله:
ورغم أن الشايب لا يزعم بأنه محلل سياسي، ولكنه مجرد "شاهد عيان" رأى التجربة عن قرب، وفي كافة مراحلها، منذ الحماس الشديد الذي رافق التجربة في بدايتها، والطبل والزمر الذي راح يعمل بقوة هنا في –القاهرة– وهناك في –دمشق– وصارت القاهرة ودمشق تتسميان بالإقليم الشمالي والإقليم الجنوبي، وذلك تحت عنوان واحد هو "الجمهورية العربية المتحدة"، وارتفعت شعارات "وحدة ما يغلبها غلّاب"، و"لا صوت يعلو فوق صوت الوحدة العربية"..
وهكذا صيغت مشابهات غير صحيحة، ولكن الشاب زهير الشايب استطاع أن يرصد نبض الناس الذين لم يكونوا مرتاحين لما يحدث، وهذا لم يمسّ حبّ الشعبين لبعضهما، ولكن الشعور التحتي للجماهير كان يقول بأن شيئًا غير سليم يتم في الخفاء، لذلك جاءت تجربة زهير الشايب المهمة رصدًا وتأملًا وتحليلا ناضجا لكل ما يحدث، وكشفا عن تفاصيل لم تكن –وما زالت– غير معلنة وغير مدركة، بسبب تلك التحفظات التي كان يبديها الكثيرون حول الحديث في تجربة الوحدة والانفصال..
(6)
وعلى الرغم من وفاته منذ 43 عامًا إلا أنه ما زال يتلقى التكريم، حيث كرم اسمه الرئيس السابق محمد حسني مبارك ومنحه وسامًا، وتقول ابنته منى الشايب "أما أنا فأول تكريم أحصل عليه جاء من مكتبة الإسكندرية بجانب اسم والدي الراحل".. رحم الله زهير الشايب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.