اليوم 8 أكتوبر عام 1961، وما زالت أزمة الحركة الانفصالية التى قادها بعض الضباط السوريين ضد الوحدة السورية المصرية ناشبة أظفارها فى عنق القيادات السياسية، وما زال الأمر غامضًا ومعلقًا، ولا يعرف أحد بالضبط ماذا سوف تفعل القيادة المصرية فى مواجهة الأحداث المتلاحقة؟ وهل بالفعل سوف يرسل جمال عبد الناصر بعض فرق المظلات إلى سوريا لتأديب السوريين، أم أنه سينتظر ما سوف يقرره الشعب السورى بعد إجراء استفتاء حول ما حدث؟ وكانت إذاعة دمشق قد بثت خبرًا بأن عبد الناصر أرسل قوات مصرية من المظلات لإنزالها فى الأراضى السورية لمواجهة حركة الانفصال هذه، ويبدو أن ذلك لم يكن صحيحًا، ولكن الإذاعة السورية من دمشق لم تقل ذلك بالضبط، ولكنها أعلنت أن عبد الناصر أعاد قواته من منتصف الطريق، وكان العالم يشاهد ما يحدث بقلق شديد، وكان تلاحُق الأحداث يعطى فرصًا قوية لأعداء ناصر لمهاجمته وتمزيقه إعلاميا، والحديث عن فشل سياساته التوسعية فى البلدان العربية، وهذا يعنى ليس فشل مشروعه الوحدوى فقط، بل يعنى فشل الثورة المصرية على الإطلاق، وعلى الطرف الآخر كان كثيرون ومحبون ومتعاطفون ومؤيدون للتجربة المصرية، يشيدون بالموقف المصرى تجاه الأحداث، نظرًا لحالة ضبط النفس التى يبديها الطرف المصرى، وكان المثقفون المصريون السند الأقوى فى دعم الموقف الرسمى، وعلى رأس هؤلاء الدكتور طه حسين، الذى لم ير للوحدة السورية المصرية أى سبب ليستفيد منها المصريون، بل كان إنشاؤها وبالًا على الشعب المصرى، وكما قرأنا فى مقاليه عن الوحدة، راح يعيِّر السوريين الانفصاليين بأوضاعهم التى كانوا يحتاجون فيها إلى مشروع الوحدة، وعندما تحققت لهم الأغراض التى كانوا يسعون إليها من الوحدة تمردوا وأعلنوا الانفصال، وسمى ذلك «بطّرا»، وإذا كان طه حسين المفكر والأستاذ الأكاديمى العظيم والمعلّم والمنهجى كان يقول ذلك، فما بالك بالمثقفين الآخرين الذين يشكلون قاطرة خلفية طوال الوقت لتبرير كل ما تتخذه السلطة من قرارات دون قراءة المشهد بعمق أو بحياد أو بموضوعية، ولكن الزمن كان كفيلا بإيضاح كثير من الملابسات السياسية والفنية -على مستوى الإدارة- على أوجه عديدة، لذلك كتب الأديب والمترجم المرموق زهير الشايب روايته الرائعة «السماء تمطر ماء جافا» عام 1979، وصدرت عن دار المعارف، وهو كان قد عاش تجربة الوحدة كمواطن مصرى تقليدى، فلم يكن قائدًا ولم يكن التحق بأى صحيفة أو مجلة، وربما لم يكن قد نشر حرفا واحدًا من قصصه ومقالاته وترجماته فى ذلك الزمن البعيد، وزهير الشايب شاءت الأقدار أن يعيش مظلومًا ومطاردًا ومغضوبًا عليه فى حياته، وظل أنيس منصور -رئيس تحرير مجلة «أكتوبر» آنذاك، والتى كان يعمل فيها الشايب- يطارده ويحاصره، حتى فصله من المجلة، فيذهب الشايب إلى إحدى دول الخليج ليعمل فى إحدى المؤسسات الصحفية هناك، ولكن لم يجد سوى المهانة تلو المهانة، فيعود فورًا إلى مصر ليقضى نحبه عام 1982، ويظل رحيله معلقا فى رقبة أنيس منصور الذى أصدر سلسلة أوامر وقرارات لقتل زهير الشايب. وفى كتابه «بارونات الصحافة» يحكى جميل عارف تفاصيل القصة كاملة، فضلا عن أن الوسط الصحفى الذى عاش فى ذلك الوقت يعرف هذه القصة بكل مفرداتها المحزنة، رغم أن زهير الشايب هو أحد المقاتلين بضراوة فى مجال الثقافة والأدب، وفضلا عن مجوعتيه القصصيتين «المطاردون» و«المصيدة»، واللتين تعتبران إحدى علامات الكتابة الستينية، فإنه هو الذى شرع -وحده- دون دعم أىٍّ من المؤسسات الثقافية العملاقة التى كانت تطبع وتنشر الغث من الكتب، ليترجم الموسوعة الخطيرة التى كتبها الفرنسيون فى أثناء الحملة الفرنسية، وهى موسوعة: «وصف مصر»، وبالفعل أنجز تسعة أجزاء من هذه الموسوعة، وطبع مجلدين منها على نفقته الخاصة، وبقية الأجزاء نشرها الحاج محمد مدبولى، هذا عدا ترجمات أخرى لكتب عن الفترة المملوكية، ومسرحية لجان بول سارتر، فضلًا عن مقالاته التى كان يكتبها فى مجلة «أكتوبر»، وإذا كان أنيس منصور ظلمه فى حياته، فزهير الشايب لم تنصفه مؤسسة بعد رحيله للاحتفال به، ورد الاعتبار له، ولترجماته العظيمة، حتى لجنة الترجمة التى كان عضوًا بها لم تلتفت له على الإطلاق. هذا اختصار مخل وشديد التكثيف لمحنة زهير الشايب، الذى كتب روايته عن مسألة الوحدة المصرية السورية التى عاشها من الألف إلى الياء عندما أوفدتها الإدارة المصرية إلى سوريا ليعمل فى التدريس هناك فى محافظة حماة، وبالتحديد فى منطقة «السلمية»، وكان قد شارك زهير هنا فى القاهرة للتصويت على موضوع الوحدة إثر إعلانها فى 22 فبراير 1958، ولم يكن يفهم شيئًا، بل كانت سيارات الاتحاد القومى هى التى تسير فى الشوارع لتحريض الجماهير على تأييد الوحدة وتأييد جمال عبد الناصر، وعندما ذهب إلى سوريا وهو يحمل آمالا كبيرة فى حياة آمنة ومستقرة، وعلاقات سلسة مع السوريين هناك، واعتقد أنه سيلقى رضا غامرا عن مسألة الوحدة، فلم يجد إلا تشككا وقلقا وارتباكا، فالسوريون لم يكونوا مطمئنين بأى شكل من الأشكال لهذه الوحدة مع المصريين، وكانت إذاعة الأردن تبث برامجها التى تقول للسوريين ليلا ونهارًا «اطردوا المصريين الذين جاؤوا لاستعماركم»، وكان الدروز والإسماعيليون والشيعة متذمرين من القرارات التى اتخذتها السلطة وتتعلق بإرسال أبنائهم للدراسة فى الأزهر الشريف «السُّنّى»، إذ كانت التعقيدات الطائفية والعرقية فى سوريا لا تستطيع استيعاب هذه الوحدة المتعجلة التى فرضتها السلطات من أعلى، ولتعقيدات كثيرة أخرى فشلت الوحدة، وتطوى صفحتها إلى الأبد دون التفكير فى استعادتها بشكلها الذى كان مطروحًا، ولكن الحوار بشأنها لا ينتهى، ويظل مشرعا ومفتوحًا طوال الزمن، وتبقى رواية الأديب والمترجم الراحل زهير الشايب شهادة فريدة فى تقديم وجهة نظر معرفية لطبائع الشعب السورى وتقاليده وتارسخه العريق، بعيدًا عن الملاسنات الحادة السياسية التى تداولها الطرفان آنذاك.