لظروف تاريخية عديدة ومركَّبات ذات أبعاد متباينة تشكل على مدار عدة عصور عدد من تابوهات الحياة فى مجتمعات الشرق فاقت شهرتها بالطبع أية ثلاثيات فكرية أو اجتماعية أو حتى روائية، ونعنى بها ثلاثية الدين والسياسة والجنس. وعلى الرغم من أن ثمة مواءمة ظلت مقترنة بتباين أساليب الحكم حيث أفضت (الديكتاتورية المستنيرة) لما يمكن تسميته (دمقرطة الاستبداد). وعلى الرغم من النفاق الذى لا تخطئه العين بين ظواهر الموقف من الجنس ومثيلاتها الخفية، فقد ظل الدين فى خندق بمفرده يواجه مواجهات شتى أو يستصدر إملاءات شتى. ليعكس الأمر برمته أزمة من نوع خاص ينخرط فيها كافة أفراد المجتمع شاءوا أم أبوا لكونها فى النهاية ترتبط بالعقل الجمعى ومدى التوافق مع الضمير الجمعى فيها. وتأتى أزمة المجتمع المصرى القديمة المتجددة فى كل مرة صاخبة الإيقاع فى مفرداتها بين المؤسسة الدينية وبعض الأطروحات الرافعة لشعارات على غرار تجديد الخطاب الدينى وإعمال العقل على حساب النقل، لتتحول الأمور إلى شخصنة مآلها ساحات القضاء حيث تهمة ازدراء الأديان أو المساحات الأرحب للإعلام حيث التكفير تارة والمساس بسلامة الاعتقاد حتى الاستتابة أو تهم العمالة والتخوين تارات أخرى. وفى ضوء تحديد المرجعية الدينية دستورياً بالأزهر الشريف باتت الأمور أكثر تعقيداً عندما يتصور طرف أنها بمثابة الوصاية المطلقة مقابل تصور الطرف الآخر فى كونها مراجعات عقلية تتجاوز تلك المرجعية، ليتطاير معها رذاذ محاكم التفتيش تاريخياً أو قضايا فكر الشيخ على عبد الرازق أو خالد محمد خالد أو نصر أبوزيد بل حتى فتاوى الشيخ شلتوت ومن قبله محمد عبده مثالاً لا حصرًا. إن القضية ليست هنا فى إعادة قراءة البخارى وصحيح مسلم أو تفسير بعض المواقف التاريخية خارج السياق البشرى أو داخله، ولولا جدية الطرح لأضفت عليها قضية عصفور فى التجسيد فنياً وكذا حلاوة الروح حيال مسافة فى عقل الزمن ومن قبلها أولاد حارتنا، مثالاً بالطبع لا حصراً. بيد أنها تتمثل فيما نرى فى المعايير التى ينبغى أن تستوقفنا ونحن نواجه أية قضية فكرية لا سيما إذا كانت ذات حساسية مستمدة من طبيعة المجتمع وظروفه الآنية ثم نوعية المتناول لها وخلفيته الفكرية والعلمية وانتماءاته المذهبية. إذ لست أدرى لم نولى هذه المعايير التى من حق المجتمع الاصطلاح عليها أهمية مبالغ فيها أحياناً حيال أحد أضلاع الثلاثية المشرقية وأعنى به ضلع السياسة ونغض الطرف عنها كلية حيال الجنس ضلعها الثانى وبملحقاته ونأتى عند الدين ليصبح الخلط وخطوط التماس أشبه بحالة من الخيوط العنكبوتية أو السيولة الزئبقية التى لا نستبين ضعف قوامها أمام التماسك الظاهرى له.؟! إنها حالة ذهنية متوارثة نشارك فيها جميعاً بحكم طبائع الأشياء، إذ من ينكر أن لكل ضلع من أضلاع الثلاثية أتباعه ومريديه ومن ينكر أننا فى أحايين كثيرة نربط فى قبول الطرح بين شخوص المؤسسة وقضاياها المنوطة بها! وأحسب أن اللغط الدائر حالياً حيال إسلام البحيرى أساساً وإبراهيم عيسى جزئياً وغيرهما علينا أن نضعه فى إطاره الصحيح دون تهوين أو تهويل، حيث لا مجال لبطولات ورقية أو مواقف كرتونية بعدما شرب المجتمع بالصاب من جراء إفساح مجالات متخصصة لغير أهل الاختصاص حيث يوسد الأمر لغير أهله، فبات الطبيب مؤرخًا وكل صاحب (طلة!!) إعلاميًا وكل من يملك أدوات الحديث بطلاقة مفكراً، لينفذ من هذه المنافذ الناشط والخبير الاستراتيجى والباحث فى (كذا؟!!).. إلخ إلخ.. ولينتهى الأمر بهم كما انتهت قضيتنا الحالية إلى ساحات المحكمة بتهمة ازدراء الأديان وإلى إنذار رسمى لقناة العرض من إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى، ناهيك عن سيل الكتابات ما بين مؤيد ومعارض وبين ملتزم ومجترئ لتزداد كثافة الضبابية التى تتنامى معها الاتهامات المختلفة لتبعد بنا عن قضية مواجهة نفوسنا وأحوالنا حقًا وصدقًا بعيدًا عن رأس النعامة الشهيرة ورمالها. إن حساسية الدين فى مجتمعنا تجعلنا نخلط بين الاعتقاد بخصوصيته والاجتهاد وإعمال الفكر والتى تعنى بها علوم الدين، وهذه الأخيرة مثلها مثل كل العلوم لها مناهجها ومتخصصيها الذين يعكفون على الدراسة لينتجوا أسفارًا عليهم هم أولاً كقدوة أن يتمثلوا فيها المنهج القرآنى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا). بيد أن ما يحدث بينهم من منازلات ضارية على غرار ما حدث منذ سنوات خلت حيال كتاب (آدم .. أبو البشر) مثلاً، إنما يضعف من بنية السماحة وقبول الآخر الذى يتسم بسمات خاصة تختلف عن ذات القبول فى القضايا الفكرية عنها فى مثيلاتها الفقهية. الأمر الآخر أنه ينبغى على المتصدى لثوابت الفكر الدينى ألاَ يلجأ لمنهج الاجتزاء دعما لموقفه لكونه يمثل نوعا من التضليل والبعد عن الأمانة العلمية، أو يسقط السياق الزمنى والتاريخى لا سيما فى قضايا باتت مجتمعاتنا تعانى منها كل المرار كمفاهيم الجهاد والشهادة وأهل الذمة والخلافة ومعاملة الأسرى ومفهوم ولى الأمر وأهل الحل والعقد. إذ الأولى به أن يتناولها فى ضوء مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة والتمثيل النيابى والدساتير بل الانسياق فى المنهج التاريخى ليصبح الرأى كلاً متكاملاً يحترم عقلية المعارض قبل المؤيد. وثالث الأمور فى هذا الصدد أنه ينبغى علينا تحديد أطر المرجعية الدينية لدى الأزهر بعيداً عن صراخ المنابر أو التباكى ورعاً فى الفضائيات، فلسنا بحاجة لمن يميت علينا ديننا بقدر أننا لسنا بحاجة لمن يظل يظهر لنا عصا الدين الحريرية بوصاية قد تسوق البعض للاقتناع بامتلاك مفاتح الخلد أو ما عداه فيما نسميه بالانصياع لا الاتباع. فعلوم الدين مثل غيرها تحتاج للتحديث وإعادة القراءة بل إحالة بعض الآراء إلى معاش الفكر بدواعى نهاية الخدمة أو وهن التناول. لتبقى كلمة أخيرة، فالمجتمع الذى لا يعنيه مثلاً كم ضيَّع من جهده زمنا وفكرا للانتصار لحديث الذبابة أو مشروعية الجان فى حياتنا وغيرها كثير ليؤكد على أن أزماته الحياتية فى كل المجالات إنما هى أزمة عقل يحفل بأن يركن لخمول الاستنامة لا لحيوية مستدامة.. ولن أزيد.. فلك الله يا كنانة الله فى أرضه.