فى زيارة أسوانية يتجدد بها الشوق لبلد عزيز على النفس حيث تنتعش الذاكرة التاريخية بإرتياد مواطن المجد والفخار و ينجلى صدأ طاحونة العمل الجامعى و ينبعث الأمل بمطالعة وجوه ذوى البشرة السمراء و القلوب البيضاء، لتصب كل هذه المشاعر بتحنان قبل الوطن الذى تشهد حبات أرض أسوان بما دار على أرضه من تحديات وما تم عمله من منجزات منذ بواكير التاريخ و حتى عصرنا الحاضر كانت كفيلة بصقل الجهود و تراكم الخبرات و إعلاء القيم. و هو ما عبر عنه عنوان المقال مع الإعتذار للشاعر صريح المشاعر نزار قباني ، فإذا كان هوى الوطن تستثيره مشاعر الغربة فإن الإحساس بذاك الهوى وأنت تعيش مع شواخص التاريخ ليختلف كل الاختلاف عن مثيلاتها خارج الحدود. إنها مشاعر مشوبة بواقعية الامال لا بأحلام العودة وآلام الاغتراب. وحتى نقترب من المشهد علينا أن نسأل أنفسنا حال تجدد الخواطر عما إذا كان أجدادنا بناة الصروح الشاخصة للعيان كانوا يمتازون عنا فى شيء غير منظور أو أنهم كانوا من فصيلة متعدية للبشرية، حتى لا نكتفى بدهشة المشاهدة بل ننعم بمكتسبات الإرث؟!. الإجابة بالطبع تتصدرها لا النافية حيث ما عداها إنما يدفعنا لقبول ما لا يقبل بالركون إلى مقولة مؤداها سيادة روح الانهزام والتسليم بواقع يتنافى مع آمالنا العراض التى لن تتحقق إلا بإرادة التغيير. تلك الإرادة التى تتجلى أهم بواعثها فى حب حقيقى للوطن بلا شائبة تعكر صفوه ولا كلمات مرسلة على غرارالأغانى (الوطنية) التى لا تحرك وجداناً فى معظمها أو الأمانى التى لا تحاكى واقعاً فى مجملها. ولكون الرومانسية الوطنية تختلف عن مثيلتها العاطفية فإن الترجمة الحقيقية لها تتمثل فيما ينبغي أن تكون عليه وسائل التعبير عنها، حيث يصبح الوطن نصب أعيننا فى كل ما نقوم به من عمل. إذ ما معنى أن يلاقى مواطن الأمرين لاستلام معاشه بعد رحلة عمل فى حب صامت للوطن؟ إذ لو أدرك المسئولون مردود التيسير فى هذا الشأن على الأجيال التالية لفطنوا لقيمة الغرس غير المباشر فى حب الوطن.. ولو تم تفعيل وسائل الاتصال الحديثة فى الحصول على المحررات الرسمية لأصبح للتعامل بها مردود مزدوج يرتبط أولهما بالتيسير المأمول الذى يشعر فيه المواطن بانسانيته، وثانيهما إحساس الثقة المتبادل حيث المشاركة بين المسئول والمواطن بديلاً عن الوصاية المقيتة!! ولو تم التعامل مع أصحاب الحاجات بمفهوم الواجب المنطوى على التكافل والإجارة وإغاثة اللهفان، لسعد الطالب والمطلوب. تلك القيم التى درجت عليها المجتمعات العربية حتى صارت نسيجاً وجدانياً نجح فى صياغة الكثير من علاقاتها عبر العصور، فضلاً عن تميز مصر بالمزيد منها والتى كان حكماء العصر الفرعونى آنذاك حريصين على تمثلها فى نصائحهم الخالدة عبر الزمان. ولو تحقق الحد الأدنى من العدالة الحقيقية بشقيها القانوني والاجتماعي لعرف كل أناس مشربهم بدلاً من السعى الحثيث بالتميز المقيت على حساب الآخرين والذى صار مدعاة للافتخار والإحساس بالتعالى المفضل ومن ثم تكريس مفردات الرداءة الأخلاقية التى يحار العقل فى فهم توجهاتها وتفنيد ادعاءاتها. إذ أن الإحساس بالظلم يظل دوماً من المشاعر المتوارثة بل والتى يسهل تصديرها وحملها خارج الحدود لتتنامي عبر الأجيال ولتتسع معها هوة الكراهة المريرة التى لن يصلح مطعمها العلقمى مدونات حب الوطن على كثرتها. وأحسب أن المتسببين فى إزكاء هذا النوع من المشاعر هم الأولى بعقوبة الخيانة العظمى، حيث تطبق على غيرهم بفعلة واحدة فى حين يفلتون بأفعالهم غير المباشرة على استدامتها. إن الحديث فى هذه القضية لا ينقضى ببضعة أسطر أو كلمات قد تبدو وكأنها من مرثيات التعزية أو تهدئة الخواطر، بل لابد من حلول ناجزة من شأنها عودة مشاعر الحب المتبادل لوصلنا مع الوطن. ومن هذا المنطلق تجدر الإشارة إلى المعالجة العلمية القائمة على الدراسات الإحصائية لمعرفة حجم (التنسيب) فى المؤسسات المختلفة وقرينه التوريث الذى لم يحرم معظم أوصال الدولة من الإنتخاب الطبيعي فحسب بل خلف مرارات لا يدرى حجم تداعياتها إلا مكابدها. والهدف ليس فى الإقصاء أو التنكيل فالخطأ لا يعالج بمثله بل هى محاولة للرصد المفضى إلى وضع معايير صارمة للاختيار حتى لا يجد كل مسئول فى أى موقع قيادى نفسه مجبراً للتعامل القبلى فى الإدارة.. وما أدراك ما هو!! ومن المراجعات فى حب الوطن قضية المثل الأعلى وسبل التكريم للتكريس، إذ غالباً ما يحظى به الوجوه ذات الإلحاح الإعلامى فى حين يتوارى فى الخلف أولئك الذين لا يبحثون عن التكريم والظهور إيماناً منهم بأن المكوث الفعلى فى الأرض بما ينفع الناس لهو التكريم الحقيقى حتى لو حجبت عنه الأضواء المبهرة. إنها معادلة غاية فى الرقى على صعوبتها لا يدانيها سوى القدرة على الفعل بمنطلقات علمية جديدة بعيداً عن تقليدية التناول التى أول ما ينبغي أن يوجه لها من نواسف هى الإتاحة الأوسع مساحة لاتخاذ القرارات، حيث نعلم جميعاً ما أوردتنا إليه فوارق السرعات بين ضوابط البيروقراطية وقرارات الإنجاز. حتى أننى لست بحاجة إلى تكرار الحديث حول المادة الدرامية الثرية الخاصة بعجائب الإدارة المصرية التى صارت من المضحكات المبكيات، حيث تسليم العقل نفسه كلية وإلى حد الإلغاء للقرارات اللامنطقية مهما عفى عليها الدهر.وبما أن ما تم سوقه يمثل نماذج لمعوقات حب الوطن الذى لو علم قدر اللوعة الوطنية للباكين فى محراب عشقه كمداً وأسفاً من المتباكين عليه وما أوردوه من موارد، لبادلهم حباً بحب وعشقاً بعشق، حيث لا يجدى فى مثل هذه الأحوال مرتبة الحب لدى أمير الشعراء فى أنه أهل لذاك لكونها تندرج تحت مفهوم الحب من طرف واحد الذى لا يجدى فى حب الوطن حيث الأفلاطونية المنشودة هنا تتمثل فى المدينة الفاضلة وما عداها باطل.