كنا - أنا وابن شقيق طه حسين - ضابطين فى جبهة القتال فى أكتوبر 1973 حينما وصل إلينا خبر رحيله فى الثامن والعشرين من الشهر.. وسمح لنا أن نهبط القاهرة للاشتراك فى تشييع جنازته. لم يسعفه القدر - إذن - لكى يجنى معنا ثمار الانتصار.. بل ترك لنا أن نجنيها بعيدًا عنه. وجوانب العبقرية عند طه حسين كثيرة.. وقد كان فى صباه مثل كل مفكر أو مبدع يجرب كل شىء: الشعر والقصة والدراسات وغيرها.. لكنه بعد مرور زمن طويل هجر الشعر بالرغم من أنه كان يمثل له خلاصًا من بعض معاناته فى مواقف كثيرة. ففى الجزء الثالث من كتابه «الأيام» يحكى طه حسين عن نفسه قائلًا:كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام فى الأزهر.. وكان يعدها أربعين عامًا.. وقد سمع الفتى درس الأدب غير حفىّ به أول الأمر.. ولكن الشيخ سأله عن شىء فلجلج الفتى.. وسخر منه الشيخ.. وسأله عن هذين «المقطفين» اللذين ركّبا فى رأسه ماذا يصنع بهما؟ «يريد بالمقطفين أذنيه».. ومنذ ذلك الوقت أقبل الفتى على درس الأدب هذا.. فلم يضع مما قاله الشيخ حرفا! ويقودنا الفتى نفسه إلى أقاليم نفسه المجهولة حين يبوح قائلًا: علم الله أن حظى من البؤس كبير لكننى غير عانى كل حظى من السعادة أنى رُضْتُ نفسى على خطوب الزمان لم تأت عبقريته إذن من الفراغ.. وإنما نبعت من عقدة التحدى والكبرياء.. ومن إصراره على التفوق والنجاح.. ومن كسره أطواق الظلام والجهالة.. ومن رفضه كل ما يحول دون إبداعه ونفاذ بصيرته.. من هنا اقتحم طه حسين ساحة الأدب نثرها وشعرها.. فقد أحس أن لديه قدرة كامنة.. وطاقة متوهجة يستطيع بهما أن يكون شاعرًا قبل أن يكون ناثرًا. ولم يكتف القدر بغياب نور عينيه.. بل خصه منذ مولده بعدد لا بأس به من المصائب والصعاب.. فلم يلبث داء الكوليرا أن اختطف أخاه.. فعرف الفتى الإحساس بالفقد وهو فى الثالثة عشرة من عمره.. ولم تكن معرفته بهذا الإحساس إلا مفجرًا لطاقته الشعرية فى رثاء أخيه. ولم يكن أمام الفتى غير الشعر كلما واجه موقفًا عصبيًا ضاغطًا على إحساسه أو كلما دعته الحاجة إلى عمق التعبير.. وقهر اللغة على أن تلبس ثوبًا قشيبا لا يغيب عن بصيرة الوجدان. ومواقف طه حسين الشعرية - على قلتها - تسجل له نفاذ الرؤية.. وشجاعة الموقف.. وقد حاول بعض الدارسين الإحاطة بإبداع طه حسين الشعرى منهم محمد سيد كيلانى «طه حسين الشاعر الكاتب» - وسامى الكيالى فى كتابه «طه حسين» - وفتحى سعيد «مع الشعر والشعراء» - لكن الجهد الدقيق المنصف الذى بذله الشاعر عبد العليم القبانى يفوق كثيًرا جهود من سبقوه أو جاءوا بعده.. عندما نشر كتابه «طه حسين فى الضحى من شبابه» حيث استطاع ملاحقة الصحف والمجلات بين عامى 1908 و1913 ليوثق أشعار طه حسين ويعلق عليها.. وإن كان جهد التوثيق يفوق جهد التعليق! ولطه حسين علاقة وثيقة بعالم الشعر طوال حياته.. فها هو يقول فى كتابه «من حديث الشعر والنثر»: إن الشعراء أبدا منقسمون إلى قسمين: هؤلاء الذين يتحدثون إلى النفس فى سهولة ويسر لا يتكلفون.. وإنما يلتمسون الجمال فى مسايرة الطبيعة.. وشعراء آخرين يجدون فى هذه العناية باللفظ.. وفى تكلف الألوان من البديع.. فهم لا يعتمدون فى الشعر على التحدث إلى النفوس والشعور فحسب.. وإنما يريدون الموسيقى فى النفس والأذن أيضًا. أما طه حسين نفسه فقد وقف فى شعره موقفًا وسطًا.. فقد أعلن ثورته على أسلوب تدريس الأدب.. وأخذ يغشى هو وصديقه أحمد حسن الزيات المقاهى ومجالس الأدب وتفتحت شهيته للشعر والتواصل مع ملتقيه عن طريق المنتديات والصحف والمجلات خاصة جريدتى مصر الفتاة.. والهداية. ويبدأ طه كغيره من فتيان جيله يكتب القصائد الغزلية.. يودعها فلسفته وبصيرته واندفاع شبابه: لا أرى للغرام فى الغىّ ذنبًا إنما الذنب للوجوه الحسان هن أغرين بالجمال نفوسًا برئت من معادن الشيطان ولم يكن طه حسين حريصًا دائما على طول القصيدة فيما يكتب.. فقد كان يستجيب لقريحته.. فإن جاءت بالقليل اقتنع به.. وإن جاءت بالكثير سعد وفرح.. وهو بهذا يقصد أن يكون الشعر انطباعًا وموسيقى.. وقصدًا وتجربة صادقة.. إنه يقول مثلًا فى إحدى قصائده العاطفية القصيرة: أيها المغرم بالحسن تخير لهواكا فهو للأبصار والألباب فتان خلوب صُنْ غراس الحب أن يهدى جنيا لسواكا ليس عهد الحب إلا صلة بين القلوب وتهاجمه الحياة وتطحنة تحت أضراسها.. لكن هذه الصعاب تكسبه تجارب تعينه على تحمل الحياة رغم صغر سنه.. بل جعلته خبيرًا بالناس حوله: لم أمض عشرين رغم أنى بلوت دهرى كما بلانى ما أنا والحادثات إلا كالريح والأغصن اللدان أميل بالنفس حيث مالت مثبت الجأش والجنان وقد اختلف النقاد حول شاعرية طه حسين.. وفى رأينا أن الرجل كان له أسلوبه الخاص فى اقتحام المواقف.. فهو يقتحمها كالرعد فى الآذان.. محدثا دويه القوى.. مؤكدًا قدرته على هذا الاقتحام.. ثم ما يلبث أن يقف مع نفسه محاسبًا مدققًا.. ثم يتخذ القرار الصعب بالبقاء فى ساحة الاقتحام أو تعديل موقفه أو الإعلاء منه أو الانسحاب! فعل ذلك فى قضيته الشعر الجاهلى.. ثم حينما هاجمه المنفلوطى وسفه نظراته بعنف سئل بعد هذه الحملة بأربعين عامًا عن سر هذا الهجوم فقال مبتسمًا «لقد كنت شابًا يريد الشهرة على حساب كاتب معروف» بل وجدناه مرة أخرى يتوعد عبد الرحمن شكرى حينما قال بضعف شعره فقال طه حسين! اقتصد فى الغلو إن لدينا أنْ تُسائل بنا نصالًا حدادا خل عنك القريض لست بأمضى فيه سهمًا ولا بأورى زنادا غير أن هذا وذاك يحسمه طه حسين نفسه فى مذكراته حين يقول: إنه لم يقل شعرًا قط وإنما قال سخفًا كبيرًا.. وربما كان طه حسين قاسيًا على نفسه ليصرف عنه أعداءه المتربصين له وينصرف هو إلى هذا العطاء المتنوع الذى يكتب له عبقريته متفردة. يقول ديك الجن نديم عينى بعدك الكوكبُ ولوعة أناّتها تلهبُ إن تكن الأيام قد أذنبت