عند الحارث المحاسبى (165- 243ه 781- 857م) نجد ثروة من فقه المصطلحات القرآنية الخاصة بمبحث العقلانية الإسلامية المؤمنة.. فالسمع قد يراد به العقل والتعقل (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) - طه: 13: أى أعقل ما أقول لك. والفهم والبيان يسمى عقلا، لأنه عن العقل كان. والوعى يعنى العقل (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) الحاقة:12: أى أذن عقلت عن الله تعالى، أى عقل عن الله ما سمعت أذناه، مما قال وأخبر. وعند الحارث المحاسبى أن العقل عن الله تعالى لا غاية له، لأنه لا غاية لله عز وجل عند العاقل بالتحديد، بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته، ولا بعظيم قدر ثوابه ولا عقابه إذ لم يعاينها، ومع ذلك فإن للعقل إزاء معرفة الله حدودا « وأعظم العاقلين عند الله العارفين عقلا عنه ومعرفة به، هم الذين أقروا بالعجز أنهم لا يبلغون فى العقل والمعرفة كنه معرفته» وفى علاقة العقل والتعقل بالتفكر والتدبر والتذكر، يقول الحارث المحاسبى: «إنه لا غناء بالعبد عن التفكير والنظر والذكر ليكثر اعتباره، ويزيد فى عمله، ويعلو فى الفضل. فمن قل تفكره قل اعتباره، ومن قل اعتباره قل عمله، ومن قل عمله كثر جهله، وبان نقصه، ولم يجد طعم البر، ولا يرد اليقين، ولا روح الحكمة وما بلغ علمًا. ومن درس العلم بلسانه، وحفظ حروفه بقلبه، وأضرب عن النظر والتذكر والتدبر لمعانيه وطلب بيان حدوده. ما أقربه فى حياته من حياة البهائم التى لا تعرف إلا ما باشرته بجوارحها. لكن المتذكر، الناظر فيما يسمع، المتدبر لما علم، المتفهم لما به أمر، المطالب لنهاية حدود العلم، الغائص على غامض الإصابة، المحكم للأصول، الراد عليها الفروع، هو المفرَّق بين ما له وما عليه والمبصر لما يصلحه وما يفسده، القوى على عصيان طبائعه، المنازع لما يهلكه، والمخالف لشهواته التى ترديه. عارف بعواقب الأمور وبما يحدث فى غابر الدهور مما حدث منه، وهاب ربَّه المؤثر لذة عقله على لذة هواه. لذة الحكماء العلماء فى عقولهم، ولذة الجهال والبهائم وشهواتهم. وأى سرور يعدل سرور العلم، وروح اليقين، وعظيم المعرفة، وكثرة الصواب، والظفر الذى لا يكبت ولا ينال إلا بحسن النظر، وطول التذكر، وتكرار الفكر، والتقديم فى التكبير. إن الله - عز وجل إنما يُمرضك ليصحك.. إن عقلت.. ويفقرك ليغنيك، ويمنعك ليعطيك، يمنحك القليل الفانى لترضى، فيعطيك الجزيل الباقى، ويميتك ليحييك، ويفنيك ليبقيك، ويداويك بالأمراض لتبرأ من سقم الذنوب. ويغمك بالأوجاع ليغسلك من درن الخطايا، ويعركك بالبلاء لُيلين قلبَك لطلب الفوز.. فكيف تعرف إحسانه وتبيّن إساءتك،وتبصر نجاتك، وتتضح لك أسباب عيشك إلا بالنظر بعقلك فيما قال؟.. لقد جعل فيك غريزة العقل، ومنّ عليك بالمعرفة. هكذا تحدث الحارث المحاسبى عن العقل: مفتاح المعرفة.. وطريق الإيمان.. وجوهر إنسانية الإنسان.