جامعة حلوان تواصل إجراءات الكشف الطبي لطلابها الجدد    الذهب يرتفع 14.2% خلال الربع الثالث من 2024    وزير التموين يوجه بوضع مخطط زمني لتطوير الشركة القابضة للصناعات الغذائية    سفير كوت ديفوار: الشركات الإيفوارية تتعاون مع شركات الإنتاج الحربي المصرية لإمكانياتها المتميزة    وزير المالية: زيادة مساهمة ودور القطاع الخاص يتصدر أولويات الإصلاح الاقتصادي    رئيس البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية جاء متأخرا وكان مطلبا منذ فترة طويلة    نعيم قاسم ينفي اجتماع 20 من قادة حزب الله أثناء الغارة على الضاحية الجنوبية    الشرطة اليونانية تعثر على جثتين في غابة بالقرب من مدينة كورينث    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 653 ألفا و60 جنديا منذ بداية الحرب    شيكابالا: سنتوج ب3 أو 4 بطولات.. وانضمام السعيد للزمالك تأخر 15 عاما    الجزيري: التصريحات السلبية سبب تتويجنا بالسوبر الأفريقي.. والأهلي لم يكن جاهزا    موعد مباراة السد القطري ضد استقلال طهران اليوم في دوري أبطال آسيا والقنوات الناقلة    رسميا.. جريزمان يعتزل اللعب الدولي    ضبط عنصرين إجراميين بحوزتهما 40 كيلو حشيش بالإسكندرية    ضبط قضايا اتجار في العملات الأجنبية ب18 مليون جنيه    ضبط دجال بالإسكندرية يروج لأعمال السحر عبر مواقع التواصل    «اشتعلت النيران بالسيارة».. إصابة شخصين في حادث انقلاب سيارة بالمنيا    غدا.. انطلاق فعاليات الدورة ال40 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط    "كوافير مراتي سبب خراب بيتنا".. مواجهة صادمة بين رجل وزوجته أمام القاضي    ضمن مبادرة «بداية».. توقيع الكشف الطبي على 1584 حالة بالمجان خلال قافلة بقرية 8 بالمنيا    توجيهات مهمة من محافظ الجيزة بشأن كفاءة الطرق والرؤية البصرية    أستاذ علوم سياسية: الدولة تقدم الكثير من الدعم بمختلف أشكاله للمواطن المصري    العمل تُطلق مبادرة "سلامتك تهمنا" بالتعاون مع مجلس أمناء القاهرة الجديدة    رسم وألعاب، أبرز أنشطة طلاب جامعة القاهرة خلال الأسبوع الأول للدراسة (صور)    «كدواني وفرحات» يتفقان على تنسيق الجهود لتفعيل المبادرة الرئاسية «بداية»    نائب الأمين العام لحزب الله يعزي المرشد الإيراني برحيل "نصر الله"    أمن المنافذ: ضبط 47 قضية متنوعة.. وتنفيذ 193 حكمًا قضائيًا    الصحة اللبنانية: استشهاد وإصابة 8 أشخاص جراء غارة إسرائيلية على منطقة الكولا    اليوم.. الحوار الوطني يجتمع لمناقشة الدعم    الأنبا توما يترأس القداس الإلهي لأبناء الأقباط الكاثوليك بدبي    طبيب: 30% من أمراض القلب يمكن تجنب الإصابة بها تماما    فيتامينات يجب عدم الإفراط في تناولها أثناء الحمل    غدا.. افتتاح الدورة السابعة لمهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما    أمينة الفتوى: هذا الفعل بين النساء من أكبر الكبائر    اقرأ في «أيقونة»| بعد واقعة مؤمن زكريا.. هل السحر موجود؟    وزير الثقافة يعلن فتح جميع المتاحف والمسارح مجاناً وخصم 50% احتفالاً بذكرى انتصارات السادس من أكتوبر    أمطار وحرارة واضطراب الملاحة.. توقعات طقس خلال الساعات المقبلة    السياحة والآثار تنظم عددًا من الأنشطة التوعوية للمواطنين    بالصور.. نجاح فريق طبي في استئصال ورم نادر بجدار الصدر لشاب بأسيوط    «الرعاية الصحية»: إجراء 20 عملية زراعة قوقعة لأطفال الصعيد بمستشفى الكرنك الدولي    كرمة سامي في اليوم العالمي للترجمة: نحرص على تأكيد ريادة مصر ثقافيا    إعلام إسرائيلي: متظاهرون مطالبون بصفقة تبادل يقتربون من منزل نتنياهو    أسعار الدواجن والبيض اليوم الإثنين في الأسواق.. 80 جنيها من المزرعة    جثتان و12 مصابا.. ننشر الصور الأولى لحادث تصادم سيارة نقل وأخرى ميكروباص بأسيوط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 30-9-2024 في محافظة قنا    أمين الفتوى: كل قطرة ماء نسرف فيها سنحاسب عليها    بوليتيكو: أمريكا تعزز وجودها العسكري بالشرق الأوسط    بعد خسارة السوبر الأفريقي.. الأهلي يُعيد فتح ملف الصفقات الجديدة قبل غلق باب القيد المحلي    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    بشير التابعي: الأهلي كان مرعوب.. وممدوح عباس سبب فوز الزمالك بالسوبر الافريقي    موعد عرض الحلقة 13 من مسلسل برغم القانون بطولة إيمان العاصي    اصطدام «توكتوك» بتريلا ومصرع سائقه في المنوفية    من مدرسة البوليس بثكنات عابدين إلى «جامعة عصرية متكاملة».. «أكاديمية الشرطة» صرح علمى أمنى شامخ    «القاهرة الإخبارية»: أنباء تتردد عن اغتيال أحد قادة الجماعة الإسلامية بلبنان    4 شهداء و49 مصابا في الغارات الإسرائيلية على الحديدة اليمنية    دونجا يتحدى بعد الفوز بالسوبر الأفريقي: الدوري بتاعنا    «الإفتاء» توضح حكم تناول مأكولات أو مشروبات بعد الوضوء.. هل يبطلها؟ (فيديو)    مفاجآت سارة ل3 أبراج خلال الأسبوع المقبل.. هل أنت منهم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحارث المحاسبى.. الرجل الذى عبدَ الله كأنه يراه
نشر في الوطن يوم 14 - 07 - 2013

حين نبحث فى سجل الأيام عن قيمة الإحسان نراه هناك جالساً فى عمق الزمن البعيد، يرنو إلينا بقلب يفيض صبراً، ولسان يلهج بالتسابيح، وعينين دامعتين على ما آل إليه الصراع على «الدين» فأصبح كل حزب بما لديهم فرحين. نراه وهو يتحسر على أولئك الذين يزعمون أنهم هم أصل الدين وأساس الطريق المستقيم، ويخطف الخطى بعيداً عنهم وهم يطاردونه ويجرحونه وينزعون عنه التلاميذ والمريدين، حتى يقف وحيداً فى وجه الريح.
هو الحارث بن أسد بن عبدالله المحاسبى، ولد بالبصرة من أعمال العراق سنة 170ه، واستمد كنيته من فعله، إذ كان صارماً فى حساب نفسه، ونهيها عن غيها وهواها، وكان حريصاً على أن يعلم تلاميذه أن «الإحسان» هو أعلى مراتب الإيمان، وأن الامتثال للقدر هو غاية الرضا، وأن اجتناب الحرام حتى ولو كان قليلاً هو جوهر الورع.
وفى اجتناب الحرام يقول عنه أبوعلى الدقاق: «كان المحاسبى إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على إصبعه عرق فكان يمتنع عنه».
أما الجنيد فيروى لنا حكاية مفصلة حول هذه الخصلة الحميدة التى زانت فعل المحاسبى، إذ يقول: «مر بى الحارث المحاسبى ذات يوم، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت له: يا عم، تدخل الدار وتتناول شيئا؟ فقال: نعم. فدخلت الدار وطلبت شيئاً أقدمه إليه، فكان فى البيت شىء من طعام حُمِل إلى من عرس قوم، فقدمته إليه، فأخذ لقمة وأدارها فى فمه مرات، ثم قام وألقاها فى الدهليز، ومر.
فلما رأيته بعد ذلك بأيام قلت له فى ذلك، فقال: إنى كنت جائعاً، وأردت أن أسرك بأكلى وأحفظ قلبك، ولكن بينى وبين الله، سبحانه، علامة، ألا يسوغنى طعاماً فيه شبهة، فلم يمكننى ابتلاعه فمن أين كان لك ذلك الطعام؟ فقلت: إنه حمل إلى من دار قريب لى من العرس، ثم قلت: تدخل اليوم؟ فقال: نعم. فقدمت إليه كسراً يابسة كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدمت إلى فقير شيئاً فقدم إليه مثل هذا».
ويقال إن المحاسبى قد ورث عن أبيه سبعين ألف درهم، لكنه لم يأخذ منها شيئاً، لأن أباه كان من «القدريين» الذين يقولون بإنكار عموم القدر الذى يجب الإيمان به، وكان يؤمن برواية تقول: «لا يتوارث أهل ملتين شيئاً». ولهذا عاش المحاسبى فقيراً، ومات وهو فى مسيس الحاجة إلى درهم واحد.
وعن هاتين الملتين يروى أبوالحسن بن مقسم: أخبرنا أبوعلى بن خيران، قال: رأيت المحاسبى متعلقاً بأبيه يقول: «طلِّقْ أمِى، فإنك على دين، وهى على غيرِه».
وصاحب «المحاسبى» بعض كبار المتصوفة مثل أحمد بن القاسم، والجنيد البغدادى، وإسماعيل السراج، وأحمد بن الحسن الصوفى، وأبوعلى بن خيران الفقيه وابن مسروق. وترك وراءه العديد من المؤلفات منها «فهم القرآن ومعانيه» و«التوبة» و«بدء من أناب إلى الله» و«شرح المعرفة وبذل النصيحة» و«التوهم» و«مائية العقل وحقيقة معناه» و«آداب النفوس» و«الرعاية لحقوق الله»، وهى مصنفات فى أصول الديانات، والزهد، والرقائق، والرد على المخالفين من المعتزلة وغلاة الشيعة.
وقد حوت هذه الكتب آراءه وأذواقه ومواجيده، فأقبل عليها من أقبل، وأدبر عنها من أدبر. ومن أقبلوا عليها استملحوا أسلوبه الذى يعتمد على الحوار، حيث طرح أحواله وأفكاره على هيئة حوار بين أستاذ وتلميذه، هادفاً إلى تربية النفوس وصقل العقول. ومن أدبروا عنه هم أولئك الذين أنصتوا إلى المتشككين فيه ممن رموه بالتفلسف أو استعمال العقل فى تعليم الدين.
ومن احتفى بالمحاسبى زاهداً ورعاً راح يردد أقواله المأثورة من قبيل:
«جوهر الإنسان الفضل وجوهر العقل التوفيق».
«من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة».
«ترك الدنيا مع ذكرها صفة الزاهدين وتركها مع نسيانها صفة العارفين».
«فى تنزيه الله هو سبحانه علم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وذلك لتفرده بعلم الغيوب فلا حاجة للقول بصفات حادثة ولا حاجة لنفى الصفات بحجة التنزيه ما دام العلم واحداً فى كل حال والمتغير تعلقه أى المعلوم إذ أن العلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه».
«من طبع على البدعة متى يشيع فيه الحق؟».
«المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثار له على نفسك وزوجك ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك فى حبه».
«خيار هذه الأُمةِ الذين لا تشغلهم آخِرتهم عن دنياهم؛ ولا دنياهم عن آخِرتِهم».
«من أراد أن يذوق لذة طعم معاشرة أهل الجنة فليصحب الفقراء الصادقين».
«الصادق هو الذى لا يبالى لو خرج كل قدر له فى قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يجب إطلاع الناس على مثاقيل الدر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم، وليس هذا من أخلاق الصديقين».
«عزلتى أنسى، لو أن نصف الخلق تقربوا منى، ما وجدت لهم أنساً، ولو أن النصف الآخر نأوا عنى ما استوحشت».
«الحب لله فى نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه، فالحب هائج غالب، والخوف لقلبه لازم لا هائج، إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية وهدى لأركان شدة الخوف، وحل الأنس بقلبه لله، فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله، فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه، استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها».
ومن أمثلة الأسلوب الحوارى الذى اتبعه المحاسبى فى تعاليمه ذلك الذى كتبه عن «الرياء»، فها هو يطرح:
«قلت» قد وصفت لى مراقبة الله عز وجل وذكره، والرعاية لحقوقه ووجوه طلبها، والأول من الواجب والفضل، فما تخاف علىَّ إن قمت بذلك؟
قال: أخاف عليك أن تفسده بما يبطل ثوابه فى آخرته، ويذهب بحلاوته من قلبك.
قلت: ذلك أعظم للحسرة، أن أتعنى، ثم يحبط ويبطل عملى، وما ذاك المعنى؟
قال: فإن المتقى الراعى لحقوق الله، عز وجل، القائم بها تتبدل أحواله حتى تظهر للخلق. فيظهر منه الصمت بعد طول الخوض فيما لا يعنيه ولا فيما يحل له. وتظهر منه المجانبة لمن كان يعصى الله عز وجل معه. ويظهر منه الأنس لمن يسلم معه، ومن يستفيد منه الخير. ويظهر منه الكلام فيما يحب الله، ويتقرب به إليه، وتسكت جوارحه ويخشع طرفه، وتعلوه السكينة والوقار، فتظهر منه الطاعات. فعند ذلك تعلم النفس أن ما ظهر منها لعباد الله عز وجل لن يمنعهم أن يحمدوا فعله، ويعظموه بذلك، ويروا له الفضل والقدر. وتعلم النفس أن ما بطن منه وسره لو ظهر لحمد ذلك منه وفضل به، فتطلب النفس الراحة إلى التزين بالدين بما ظهر وبما أسر أن يكون محموداً معظماً، وليكون فى الدنيا محموداً معظماً».
وهناك من هاجم المحاسبى عن جهل وغلظة، وحرض الناس على عدم قراءة ما خطه بنانه. فها هو أبوزُرعة الرازى يقول لمن سأله عن كتب المحاسبى: «إياك وهذه الكتب، بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: فى هذه الكتب عبرة! فقال: من لم يكن له فى كتاب الله عبرة فليس له فى هذه عبرة.. بلغكم أن مالكاً أو الثورى أو الأوزاعى أو الأئمة صنفوا كتباً فى الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟! هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالمحاسبى، ومرة بعبدالرحيم الديبلى، ومرة بحاتم الأصم. ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع».
وهذا بالطبع رأى «أهل الأثر» أو «أهل الحديث» عموماً، حيث غلبوا الرواية على الدراية، ورفضوا ما ذهب إليه المعتزلة من استعمال العقل، والقول بأنه يكمل مسيرة الوحى، وما ذهب إليه الأشاعرة من استعمال العقل فى فهم النقل، وكذلك كل ما ذهب إليه المتصوفة من الذهاب بفهم الدين والعمل به إلى ما هو أبعد من ظاهر النصوص والطقوس. وقد أدى هذا إلى ضمور الاجتهاد وتهافت التأويل والإضرار بالوجدان والعرفان، ناهيك أصلاً عن ضعف البرهان.
فها هو ابن الأعرابى رغم أنه يقر بتفقه المحاسبى، وكتابته للحديث النبوى ومعرفته بمذاهب النساك وأنه كان من العلم بموضع، فإنه يهاجمه لا لشىء سوى أن الرجل تكلم فى مسألة اللفظ ومسألة الإيمان، وكان يستعمل عقله وحدسه فى فهم الدين.
وهناك من يقول إن الإمام أحمد بن حنبل قد هجر المحاسبى، فاضطر أن يختفى عن الأنظار مدة. وهنا يقول البيهقى إنه يحتمل أن يكون الأول قد كره ما عند الثانى من «علم الكلام» أو ما هو عليه من تقشف شديد وزهد عميق ومحاسبة صارمة للنفس هى فى نظره «لم يرد بها شرع». ونسب إلى أبى بكر الخلاق أن أحمد حذر من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية يعنى فِى حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إِلَى رأى جهم، مَا زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط! انظر أى يوم يثب على الناس.
وجاء فى «إحياء علوم الدين» لأبى حامد الغزالى أن ابن حنبل غضب من المحاسبى بعد أن أصدر كتابه فى الرد على المبتدعة، حيث لم يرق له الطريقة التى عالج بها هذا الموضوع، وقال له: ويحك ألست تحكى بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر فى تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأى والبحث؟!».
لكن ابن تيمية رفض هذه الرواية وقال: إنما هجره لأنه كان على قول ابن كُلّاب الذى وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات، وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفى الصفات مطلقاً، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات ويقررون ذلك بالعقل، وإن كان مضمون مذهبه نفى ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه فى مسألة القرآن. وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة.
وقد حوصر وطورد المحاسبى من أتباع ابن حنبل، فاضطر إلى ترك بغداد ولجأ إلى الكوفة، وبعد سنوات عاد إلى بغداد لكنه توقف عن التدريس بسبب حثهم الناس على الانفضاض عنه، وتهديده هو نفسه، فقضى بقية حياته يعانى من الفقر والإهمال.
لكن هناك رواية أخرى تناقض هذا وتدل على أن ابن حنبل كان يروق له زهد المحاسبى وإن تحفظ على قوله، لكن تلاميذه من الحنابلة بالغوا فى الإساءة إلى هذا المتصوف الكبير، وتشددوا أكثر من أستاذهم فى التعامل معه. فها هو إسماعيل بن إسحاق السراج يروى:
«سألنى ابن حنبل ذات يوم: هل تستطيع أن ترينى الحارث المحاسبى إذا جاء منزلك؟
فقلت له: نعم، وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث؛ فقلت له: إنى أحب أن تحضر الليلة عندى أنت وأصحابك.
فقال: إنهم كثير؛ فأحضر لهم التمر والكسب.
فلما كان بين العشاءين جاءوا وكان الإمام أحمد قد سبقهم، فجلس فى غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئاً، بل جاءوا بين يدى الحارث سكوتاً، مطرقى الرؤس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريباً من نصف الليل سأله رجل مسألة، فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكى؛ وهذا يئن وهذا يزعق.
قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة، فإذا هو يبكى، حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبدالله؟
فقال: ما رأيت أحداً يتكلم فى الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء!! ومع هذا، فلا أرى لك أن تجتمع بهم».
وتتخذ الرواية السابقة مصداقية نسبية نظراً لأمرين؛ الأول أن المحاسبى كان من رواة الحديث النبوى، وهو ركن أساسى فى مشروع ابن حنبل، حيث كان الأول يروى عن يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه أحمد بن الحسن بن عبدالجبار الصوفى، وأحمد بن القاسم بن نصر الفرائضى، وغيرهما. والثانى أن ابن حنبل نفسه، الذى ينظر إليه باعتباره الرجل الأول فى مسيرة التيار السلفى عبر التاريخ، كان زاهداً ومتقشفاً، ولذا لا أعتقد أن زهد المحاسبى من الأمور التى تغضبه أو تثير حفيظته، حتى لو كان بها بعض شدة أو صرامة. وقد تكون رواية غضب ابن حنبل من المحاسبى قد تواترت على ألسنة تابعى الأول فى الزمن اللاحق ضمن ما تم اختلاقه بإفراط فى أتون الصراع الضارى بين السلفيين والصوفيين.
وفى هذا الإطار كان من الطبيعى أن يتحدث المتسلفة عن أن المحاسبى قد رجع عن كثير من كلامه، وهذا ما يطلقونه دوماً على المخالفين لهم فى الرأى، حتى يطمئنون أنفسهم على ما هم عليه، ويجعلون تلاميذهم يثقون فيما يقولونه لهم، حين يرون أن هناك رؤية مغايرة فى تاريخ الفكر والفهم والتذوق الإسلامى.
وقد لخص الذهبى فى ترجمته من الميزان كل هذا الجدل بقوله: كان المحاسبى صدوقاً فى نفسه، وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه.
وفى الحقيقة فإن المتسلفة يفرطون فى كراهية الاجتهاد وأهله، والتصوف ورجاله، رغم أن كثيراً من المتصوفة كانوا ملتزمين بالكتاب والسنة. فالحارث المحاسبى نفسه يقول فى كتابه «شرح المعرفة وبذل النصيحة»: «وأعون الأمور لك على التقوى لزوم طريق أصحاب النبى عليه الصلاة والسلام، وإياك والمحدثات من الأمور، والرغبة عن طريقهم، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. والضلالة وأهلها فى النار، أعاذنا الله تعالى وإياك من النار. واعلم أنك إذا أخذت طريق أصحاب النبى عليه الصلاة والسلام، فقد أخذت بغاية الصدق، وأفلحت حجتك، ونلت بغيتك، فلا تخالفهم فى شىء من الأشياء، فإنهم كانوا على الحق المبين، والنور الواضح، فاتبع سبيلهم ومنهاجهم، ولا تعرج عنهم فيعرَّج بك، ولا تخالفهم فيخالَف بك».
وبالتالى يكون المحاسبى واحداً ممن شقوا طريقاً وسيعا وعميقا فى تاريخ المسلمين يزاوج بين وجدانيات التصوف والالتزام بالنص، أى بين الشريعة والحقيقة، دون أن يغمط حق العقل فى التفكر والتدبر، لكن أهل الأثر أو أهل الحديث يتوهمون أن مثل هذه المزاوجة بدعة أو خروج عن الطريق المستقيم، مع أن الرجل كان معروفاً بمحاسبة النفس، والنزاهة والاستقامة إلى أقصى حد يبلغه إنسان.
وفى سنة 243ه مات المحاسبى فى بغداد، وكانت جنازته بسيطة، إذ لم يصلِّ عليه سوى أربعة أفراد بعد أن هجاه تلاميذ ابن حنبل، لكن عاشت سيرة ورعه وزهده فى كل مكان بالعالم الإسلامى متسع الأرجاء، وكلما أراد أحد أن يضرب مثلاً ناصعاً على الإحسان استدعى المحاسبى من قلب التاريخ البعيد وأتى على ذكره فى امتنان عميم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.