الذى يحدث فى مصر منذ ثورة يونيو شغل مصر والعالم ووضع مصر بين منحدرين الأول نازل، والآخر صاعد، فمن العبث فى التحليل السياسى للمستقبل أن نتجمد عند لحظة يوم 3 يوليو المهم أن شارعا معتبرا وواسعا أعلن عن سخطه على الإخوان بإحلال جبهة الانقاذ محل الإخوان المسلمين، لأسباب سوف يقف التاريخ والمؤرخون طويلاً للاجتهاد فيها، فهو فى ظاهره على الأقل صراع على السلطة بقطع النظر عن أدوات كل طرف فى هذا الصراع، المهم أن أهم واجهات المشهد هو أن جبهة الانقاذ نجحت فى الاستفادة من الجيش الذى كانت تناهضه العداء وقادت نداءات السقوط ضد حكم العسكر، حتى يضعها فى السلطة مع كل عجزها عن الوصول إليها بالطريق الديمقراطى، وتظل السلطة معينة ليست منتخبة حتى إشعار آخر. وهذه قضية أخرى لها أهميتها البالغة فى النظر إلى المستقبل، لكن الذى يشغلنى حقاً هو أن مصر فى أتون هذا الصراع تتفاقم مصالحها الاستراتيجية وأهمها أربعة، المصلحة الأولى هى الوفاق الوطنى، والمصلحة الثانية هى سيناء، والمصلحة الثالثة هى مياه النيل، والمصلحة الرابعة هى الآثار المحتملة على الأمن القومى المصرى من تطورات الأوضاع فى سوريا ولبنان وفلسطين. ولسنا بحاجة إلى التنويه إلى أن المنطقة كلها تتأثر لابما يحدث فى مصر، بل أصبحت المنطقة لها ظل على تطورات الاوضاع فى مصر وهى ظاهرة خطيرة وحديثة، حيث كانت مصر هى التى تؤثر، وكانت المنطقة تتحد أو تتشرذم مواقفها إذا انفردت مصر بمواقف إيجابية أو سلبية، ولذلك فالحديث عن الأمن القومى العربى ليس مرتبطا فقط بالصراع مع إسرائيل، وإن كانت إسرائيل هى أهم مهددات هذا الأمر، كما أنه حقيقة وليس من قبيل اللغو. المصلحة الأولى هى الوفاق الوطنى ويعبر عنه بصور مختلفة ولكن بنفس المعنى مثل المصالحة، ونزيد عليها التنشئة الثقافية والسياسية، وأعتقد أن هذه الخطوة يجب أن يتحلى فيها الجميع بأعلى قدر من المسئولية والمكاشفة وليس بإضمار الحقد ومشاعر الانتقام، ولهذا الموضوع يجب أن تجرى الدراسات والخطط حتى يتحقق الوفاق فعلا، وهو أمر يختلف عن التسويات والصفقات، والفارق بين هذه المصطلحات هو أن موازين القوة بين الأطراف يجب ألا يحتكم إليها نظراً لاختلاف معيار هذه الموازين من مرحلة الأخرى، ونظراً لأن المجتمع المصرى لن يسرد بسرعة مصداقية الصندوق بعد ما رأى من إطاحة فورية بنتائج جميع الصناديق فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والاستفتاءات الدستورية. ولابد أن نلحظ أنه لايجوز استغلال الضربة التى أصيب بها التيار الإسلامى، لأن المزاج العام للمجتمع المصرى لن يعرف فى المدى المنظور إلا معايير الكفاءة والفعالية، وإنما لابد أن يسود معيار المصلحة الوطنية وحدها. ولابد أن تكون نقطة الارتكاز هى الإصرار على إنشاء دولة مدنية ديمقراطية تعلى قيمة المواطنة والحرية والكرامة. المصلحة الوطنية الثانية هى سيناء التى يضربها الإرهاب ويستنزف فيها الجيش وتتسع لكل المكائد والمؤامرات وأخطرها استهداف إسرائيل لها، ولذلك لا يمكن للطريقة العسكرية أن تفلح فى اقتلاع الإرهاب، وإنما تحتاج سيناء إلى خطة متكاملة للتنمية كما يحتاج الإرهاب إلى خطة لتفكيكه لها طابع أمنى وثقافى واجتماعى، حتى لا تصبح سيناء العنوان الجديد والمسرح المتجدد لمعركة الإرهاب الدولى، ولذلك فالمطلوب خطة أمنية ثقافية اجتماعية تنموية لسيناء حتى تكون مركز قوة مصر وليس جرح مصر النازف. المصلحة الثالثة هى قضية المياه، وهى مشكلة دائمة تحتاج إلى حل دائم، ولايمكن حلها بحلول موضعية أى أنه لابد من خطة لإصلاح السياسة الخارجية فى إفريقيا لأن مشكلة المياه عرض لمرض أوسع وهو انحسار مكانة مصر فى إفريقيا. وإصلاح السياسة الخارجية المصرية فى إفريقيا يتطلب برنامجاً شاملا يحقق المصالح المصرية جميعاً ومن أهمها قضية المياه. ومن الخطأ قصر النظر إلى المشكلة من منظور العلاقات الثنائية، كما أنه من الخطأ الاعتقاد بأن نشأة المشكلة أو حلها مرتبط بنظام معين فى مصر، والمفروض أن تكون استراتيجية مصر فى هذا المجال هدفا قوميا لا علاقة له باجتهادات أو تقاطعات الآراء والاجتهادات بين الحكومات والنظم التى تتغير فى القاهرة. المصلحة الرابعة هى توقى الآثار المترتبة على الصراع فى سوريا علماً بأن ما يحدث فى مصر يؤثر على البيئة الإقليمية كلها كما أصبحت تأثيرات هذه البيئة بالغة الأهمية على صفحة التطورات فى مصر. إن التحدى الأكبر لمصر لايزال فى الداخل المصرى، ولابد من فك الاشتباك بين الدينى والسياسى، المدنى والعسكرى، الوطنى والعميل، الديمقراطى والفوضوى وأخيراً، العقد الاجتماعى الشامل بين المصريين، ليكون ملزماً لأى حاكم، فقد مضى الزمن الذى كان فيه هذا العقد بين الحاكم والمحكوم، مثلما كان الدستور فى الماضى منحة من الحاكم أوفى أحسن الأحوال عقد إذعان بين الشعب والسلطة أو بين الحاكم والمحكوم أشبه بالعقود الإدارية التى تكون فيها الحكومة هى الطرف الأقوى ويتمتع بسلطات ديكتاتورية تخرج العقد عن طبيعته وتدخل فى طائفة عقود الإذعان. لاتزال عقلية المماليك ومنطق الشللية والقوة المادية والأنانية هو الذى يحكم مصر ولذلك فإن الأمل فى الديمقراطية لايمكن الحديث عنه إلا إذا اعتمدنا الأدوات الديموقراطية وليس نظام صناعة الثورات الجاهزة وقهر الناس على قبول مايردده الحاكم. زال الإخوان وقفز إلى السلطة غيرهم وهم لايقبلون إلا فصيلهم فهم الانقاذ الإخوانيون، ولن يستقيم حال مصر إلا إذا تولى أمرها المخلصون الأكفاء المتجردون من غير القبائل والحوارى السياسية فى مصر. أن أول شروط الحياة السياسية أن يتعلم الناس قدسية الحياة الإنسانية وأن يبدلوا الفجور بالرحمة بقطع النظر عن مصدرها، وأن يتحلوا بالتسامح والرغبة فى العيش المشترك بعيدا عما يسمونه السياسة وهى فى الحقيقة ستار لأسوأ ما تحويه النفس الإنسانية من أحقاد وظلمات ولا يقول بغير ذلك منصف.